Friday, March 30, 2007

المرأة الطويلة


المرأة الطويلة
تأليف: بيدرو أنتونيو دى ألاركون
ترجمة: رامز الحداد

I

ما الذي نعرفه أصدقائي ما الذي نعرفه! قالها غابرييل، المهندس المميز في الجبال، الجالس أسفل شجرة الصنوبر، قريباً من النبع، في قمة غواداراما، الواقعة في نصف طريق إسكوريال، على الحدود الفاصلة بين مقاطعتي مدريد وسيغوبيا، المشهد والنبع والشجرة أعرفها وأعرف منظرها، لكنّي نسيت اسمها.
دعونا نجلس، تابع غابرييل، كما هو مكتوب في برنامجنا الراحة والاستجمام في هذا الموقع اللطيف والكلاسيكي، المشهور بميزات ماء نبعه الهضمية، وبحملانه الكثيرة التي أكل منها معلمونا المنوّرون، السيد ميغيل بوتس، السيد ماكسيمو لاغونا، السيد أوغستن باسكوال وعظماء آخرون. اجلسوا ودعوني أخبركم قصة غريبة ورائعة للتأكيد على أطروحتي، والتي سوف تقولون عني ظلامي لأجلها، فما زال يحدث على الكرة الأرضية، أمور خارقة، أمور لا تلائم مساحة المنطق، ولا العلم ولا الفلسفة، كما في هاملت، كلمات، كلمات، كلمات اليوم أفهمها أو لا أفهمها.
كان غابرييل يعطي هذه التلميحات الحيوية إلى خمسة أشخاص مختلفين بالأعمار، لكن ليس منهم أحد شاب، واحد منهم كان طاعناً في السن، ثلاثة منهم كانوا مثل غابرييل مهندسين في الجبال، الرابع رسّام والخامس كان أديباً من ناحية أو أخرى. جميعهم كانوا متفقين مع المتكلم، الذي كان أصغرهم. وعلى حمير مستأجرة من المكان الملكي للقديس لورينثو كنا نجمع أعشاباً من هذه الأشجار الصنوبرية الجميلة للبيغيرينوس، نصطاد الفراش في الشبكات، نصطاد الخنافس النادرة من تحت قشر الصنوبر المتعفنة، ونأكل من سلة الطعام التي دفعنا بحصص ثمنها.
حدثت القصة في عام ألف وثمانمئة وخمسة وسبعين، إذ كان صيفاً لاهباً، لا أدري إن كان يوم القديس سانتياغو أو القديس لويس، أميل إلى اعتقادي بأنه يوم القديس لويس حيث كنا قد استمتعنا ببرودة تحت الصيف اللاهب، فالقلب والمعدة والعقل كانت تعمل هنا أفضل من العالم الاجتماعي والحياة العادية.
جلس الستة أصدقاء، حينها أكمل غابرييل قصته بالشكل الآتي:
أعتقد أنكم لن تتهموني بكوني خيالياً، لحسن الحظ أو لسوءه أنا كذلك، واسمحوا لي لأقول ذلك، أنا رجل معاصر لا أملك خرافات، وأنا إيجابي كأكثر الناس، مع أني أضم وسط أكثر الحقائق الإيجابية جميع القدرات الغامضة ومشاعر الروح. حسناً، في ما يتعلق بالخوارق أو الأمور الخارجة عن الطبيعة أو الظواهر استمعوا إلى ما شاهدت وسمعت، على الرغم من أني لست البطل المطلق لهذه القصة الغريبة التي سأرويها لكم، ومن ثم قولوا لي على التوالي أي تفسير أرضي أو فيزيائي أو طبيعي أو كما تريدون أن تسموه، تستطيعون إعطائي إياه في أي حادثة رائعة. القضية كانت كالآتي لكن انتظر: اسكب لي بعضاً من هذه القطرات من الزجاجة التي لا بد أنها بردت الآن.

II

حسناً، سادتي، لا أدري إذا كنتم قد سمعتم عن مهندس طرق يدعى تيليسفورو اكس والذي مات في عام ألف وثمانمائة وستين.
- أنا لم أسمع.
- أنا سمعت.
- وأنا أيضاً سمعت، إنه فتىً أندلسي،ذو شارب أسود، حيث كان سيتزوج ابنة ماركيز مدينة موريدا، والذي قد مات بمرض اليرقان.
- هو ذاته - تابع غابرييل - حسناً، جيد، صديقي تيليسفورو قبل وفاته بنصف عام كان لا يزال شاباً متألقاً، كما يقولون هذه الأيام كان جميلاً، قوياً، حيوياً، وقد تألق في حصوله على المرتبة الأولى في مدرسة الطرق. كما حصل على التميز في التدرب على مهنته على بعض الأعمال الملحوظة، والذي كانت الكثير من الشركات تتنافس للحصول على خدماته، والكثير من النساء والفتيات والأرامل يحببن الزواج به، لكن تيليسفورو كان مخلصاً في حبه لخواكينا موريدا.
- سيد غابرييل بالترتيب لو سمحت.
- حسناً، حسناً سوف أرويها بالترتيب فلا قصتي ولا حديثي تحمل في طياتها شيئاً من المزاح. خوان اسكب لي نصف كأس آخر... جيد جداً هذا النبيذ! حسناً، انتبهوا وضعوا وجوهاً جدية فالآن سأبدأ بالرواية. حدث وكما تعرفون أن خواكينا ماتت فجأة في حمامات القديس آغيدا في نهاية عام ألف وثمانمائة وتسعة وخمسين. لقد كنت في باو عندما تلقيت هذا الخبر الحزين والذي أثر فيّ كثيراً بسبب العلاقة التي تربطني بتيليسفورو. لقد تحدثت معها مرة واحدة فقط، في منزل عمتها زوجة الجنرال لوبيث، وقد جزمت قطعاً أن امتقاع لونها إلى الأزرق كان عرضاً لصحة سيئة، لكن، مهما يكن، كانت فتاة ذات أخلاق مميزة وجمال وكانت الابنة الوحيدة التي لديها لقب، لقب حمل في طياته آلاف المعاني، لذلك قد شعرت أن صديقي الرياضي سوف يحزن كثيراً. وفيما بعد حالما وصلت إلى مدريد بعد خمسة عشر أو عشرين يوماً على وفاتها ذهبت لرؤيته في الصباح الباكر حيث كان يعيش في غرفة صغيرة أنيقة في شارع لوبو قريباُ من كنيسة القديس خورونيمو.
كان الشاب المهندس حزيناً جداً على الرغم من أن السكينة قد طغت على حزنه. لقد كان في عمله، حتى في هذا الوقت، يعمل هو ومساعده على بعض مخططات سكة الحديد. كان يرتدي ملابس الحداد. حيّاني بعناق طويل وحميم، ولم يأتي بشيء حتى التنهد. من ثمّ أعطى بعض التعليمات لمساعده عن العمل الذي بيده، وبعد ذلك اقتادني إلى مكتبه الشخصي في نهاية منزله. وبينما نحن في الطريق قال لي بنبرة حزينة دون أن ينظر إلي:
أنا سعيد جداً لقدومك، الكثير من المرّات أجد نفسي متمنيةً وجودك معي، حدث معي أمر عجيب، وحده صديق مثلك يستطيع سماع هذا الحديث دون أن يعتقد بأنّي مجنون أو شيء من هذا القبيل، أريد رأياً صافياً ولطيفاً كالعلم ذاته. "اجلس" تابع حين بلغنا مكتبه، ولا تتوهم بأنّي سوف أحزنك بوصف ما أعانيه من حزن، حزن سوف يبقي في داخلي ما حييت، ولماذا أقول لك عنه؟ تستطيع أن تتخيله بنفسك بقليل ما تعرف من مصاعب، ولأريحك لا أريد أن أحدثك عنه لا الآن ولا لاحقاً ولا أبداً. الذي أريد أن أحدثك عنه، بالتأني الضروري، يعود إلى بداية الأمر، فهو حدث رهيب وغامض، والذي كان بشير بشرني بكارثتي، ووضعني في جو مخيف.
تابع، قلتها وأنا جالس، والحقيقة أني ندمت دخولي البيت حالما شاهدت التعابير الخسيسة على وجه صديقي.
اسمع إذاً، قالها وهو يمسح العرق عند وجنته.

III

لا أدري إن كانت بسبب قدر وموروث من الخيالات، أو لسماعي لقصة أو شيء آخر الذي يجعل الأطفال ترتعب بسرعة. لكن الحقيقة أنه منذ كنت صبياً لا شيء سبب لي الرعب والخوف أكثر من امرأة وحيدة في الشارع، في ساعة متأخرة من الليل. الأثر هو نفسه في داخلي سواء صادفتها أو ببساطة ظهرت صورتها في عقلي. تستطيع أن تشهد اني لست بجبان، فقد قاتلت مرة في مبارزة، وعندما أضطر إلى ذلك، مثل أي رجل آخر. بعيد ما غادرت كلية الهندسة، زملائي في العمل تمردوا فقاتلتهم بالعصي والمسدسات إلى أن جعلتهم يمتثلوا لي. كل حياتي في خاين، وفي مدريد، وفي أي مكان آخر، كنت أمشي في الشوارع في جميع الأوقات، وحدي وبدون سلاح، أصادف الكثير من الأشخاص المشبوهين، اللصوص، والشحاذين الحقراء يجب أن يتنحوا عن طريقي أو أدوسهم. لكن إذا تحول هذا الشخص لامرأة وحيدة، واقفة أو سائرة، وأنا أيضاً كنت وحيداً دون أن يكون هنالك أحد في الطريق أو على مد البصر. (اضحك إذا أردت لكن صدقني) سأمتلئ رعباً وسيراودني رعب غامض، سوف أفكر بكوني في عالم آخر، أفكر بالوجود الخيالي، وعن كل قصص الخرافات التي سوف تجعلني أضحك في ظروف أخرى، سوف أسرع في خطواتي، واستدير، ولن أخرج من رعبي إلا إذا رجعت آمناً إلى بيتي.
حينها سوف أقع من الضحك على خوفي المجنون، وعزائي الوحيد أنه لم يكن هنالك أحد، عندها سوف أذكر نفسي دون عاطفة أني لا أؤمن بالعفاريت، ولا الساحرات، ولا الأشباح، وأني لا أملك أي سبب ليجعلني أخاف من تلك المرأة القذرة التي دفعها الفقر للخروج من منزلها عند تلك الساعة، أو حدوث جريمة، أو حادث والتي إليها سوف أعرض عليها المساعدة إذا احتاجت أو أعطيها الصدقات. وعلى الرغم من ذلك، فإن ذلك المشهد التافه سوف يتكرر إذا حدث مثل ذلك الحدث، وتذكر أن عمري فيها كان أربعة وعشرين عاماً وقد شهدت الكثير من المغامرات ليلاً، ولازلت لا أملك أدنى صعوبة في أي ناحية مع امرأة وحيدة في الشارع في منتصف الليل. ولا شيء من الذي قلته لك له أي أهمية، حالما تتركني المخاوف اللاعقلية عندما أبلغ المنزل، أو أرى أي أحد في الشارع، ونادراً ما أتذكرها بعد ذلك، تماماً مثل من يذكر غلطة سخيفة ليس لديها أي عواقب.
كانت الأمور تحدث كما هي عندما وتقريباً قبل ثلاثة أعوام، للأسف، عندي سبب جيد لحفظ التاريخ، ليلة الخامس عشر و السادس عشر من تشرين الثاني من عام ألف وثمانمائة وسبعة وخمسين، كنت قادماً للبيت على الساعة الثالثة صباحاً. وكما تذكر، كنت أعيش في ذلك البيت الصغير في شارع خاردينس قرب شارع مونتيرا، كنت قد أتيت في هذه الساعة المتأخرة، إذ كان هواء لاذع بارد يهب حينها من بيت قمار، أقول لك هذا وأنت تعلم أنّي لست بمقامر. ذهبت إلى ذلك المكان مخدوعاً بصديق مزعوم. لكن الحقيقة كانت وأنه عندما بدأ الناس يقومون بزيارات عند منتصف الليل قادمين من حفلة أو مسرح، يبدأ اللعب يأخذ مجده، ويبدأ الأشخاص برؤية وميض الذهب الوفير، وتوضع الأوراق البنكية والمكتوبة باليد. شيئاً فشيئاً انجرفت بالعاطفة المحمومة والمغرية ففقدّت كل الأموال التي أملكها، حتى أنّي خرجت مديوناً وكتبت صكّاً لهم. بعد لحظات دمرت نفسي كلياً، لكن مع الميراث الذي أتاني بعد ذلك، ومع عملي الجيد الذي أملكه، كان وضعي حرجاً ومؤلماً كثيراً.
كنت عائداً إلى المنزل في وقت متأخر من الليل متخدراً من البرد، جائعاً، خجلاً من نفسي، وقرف إلى أبعد الحدود. أفكر في والدي المريض أكثر من نفسي، يجب أن أكتب له من أجل النقود، وهذا سوف يكون مفاجئاً له بالقدر الذي سوف يحزنه، بما أنه يعلم أني في وضع جيد. قبيل أن أصل شارعي، عند تقاطع شارع بيليغرو، وبينما كنت أسير أمام بناء حديث الإنشاء، لاحظت شيئاً في مدخل المبنى، كانت امرأة طويلة وعريضة، تقف جامدة دون مشاعر كأنها صنعت من خشب.
بدت كأنها في الستين من عمرها، عيناها الوحشية والحقودة، المظللة برموشها، كانت مثبتةً نحوي كخنجرين. فمها منزوع الأسنان اصطنع كشرة نحوي كان يقصد بها بسمة.
الرعب الكبير أو الهذيان من الخوف الذي غلبني لوهلة أعطاني بطريقة ما إدراك حاد للحقيقة، وعليه أستطيع أن أميّز بنظرة التفاصيل الدقيقة لثوبها ووجهها، في الثانيتين اللتين استغرقتاني للمرور بذلك المشهد الكريه. دعني أرى إن أستطيع وضع انطباعاتي معاً في الطريقة أو الوضعية التي تلقيتها بها، بالطريقة التي كانت قد نقشت بحيث لا تمّحي من عقلي، تحت ضياء مصباح الشارع الذي لمع متوهجاً فوق المشهد الشبحي.
لكني أثير نفسي كثيراً، على الرغم من وجود سبب لذلك كما سترى لاحقاً. ولا تهتم لحالتي العقلية، فما زلت غير مجنون.
كان أول شيء أدهشني في هذه المرأة هو طولها الفارع وعرض عظم كتفيها الكبير. وأيضاً استدارة عينيها الثابتتين اللتين تبدوان كعيني البومة، وضخامة حجم أنفها البارز، وكبر حجم فمها الكهفي، وأخيراً ملبسها مثل فتاة شابة من الابابيس ، والمنديل الحديث الصغير الذي ارتدته على رأسها، وبحشمة متواضعة كانت قد غطت منتصف خصرها.
لا شيء قد يبدو أكثر سخفاً وكراهية، أكثر إثارة للضحك وسخرية من تلك المروحة في تلك اليدين الضخمة. لقد بدت كأنها صولجان في يدي عملاق عظمي عجوز شائن. وكأثر آخر مشابه كان ناتج عن المنديل الفضي المبهرج والذي يزين وجهها على جانب أنفها المسيّل المعقوف الذكري، للحظة ملت للاعتقاد ( أو أني رغبت بشدة في الاعتقاد ) بأنها كانت رجلاً متنكراً. لكن نظرتها التهكمية وبسمتها القاسية كانتا ناتجتان عن عفريتة، عن ساحرة، عن مشعوذة، عن ... لا أدري عن ماذا! عن شيء يبرر الكره والخوف اللذان سببتهما طوال حياتي لنساء يمشين وحدهن بالليل في الشارع. يستطيع أحدهم أن يقول أني كنت مبشراً منذ ولادتي بهذا اللقاء، يستطيع أحدهم أن يقول أن خوفي منها غريزياً، تماماً كأي كائن حي يخاف ويتنبأ، يحس ويدرك، إنها عدو طبيعي قبل أن أضر منها، قبل حتى أن أراها، فقط من سماعي لوطء أقدامها.
لم أولّ راكضاً عندما شاهدت لغز حياتي، كبحت من دوافعي لذلك، والتي هي أقل من أن تكون للخجل والكبرياء الرجولي من أن يكشف خوفي الشديد لها من أكون، وأن يعطيها أجنحة للحاق بي، أو لمهاجمتي، أو... لا أدري لماذا! الرعب الذي يحلم بالخطر ليس له شكل أو اسم محددين.
كان بيتي يقع في النهاية المقابلة للشارع الطويل الضيق، والذي كنت فيه وحدي، وحدي كلياً مع ذلك الشبح الغامض الذي اعتقدت أنه قادر على إبادتي بكلمة. كيف لي أن أذهب للبيت؟ آه، كم نظرت بقلق تجاه ذلك الشارع البعيد، شارع مونتيرا، الواسع والمضاء، والذي يتواجد فيه رجال الشرطة على مدار الساعة.
استطعت بالنهاية أن أتفوق على ضعفي، وأن أخفي وأخبئ ذلك الخوف البائس، وأن لا أسارع خطواتي، لكن أبقيها على التقدم البطيء، حتى على حساب السنين والصحة والعمر، وبهذه الطريقة أصبح أقرب إلى منزلي، أبذل قصارى جهدي كي لا أقع مغشياً علي على الأرض قبل أن أصل المنزل.
واحد من أمرين - فكرت بسرعة الضوء - إما أن يكون رعبي له أساس أو أنه جنون، إذا كان له أساس فإن هذه المرأة سوف تبدأ باللحاق بي، وسوف تدركني ولن يكون لي خلاص ساعتها على الأرض. وإذا كان جنوناً، فإنه رعب أخافني كأي شيء آخر، فسوف أقنع نفسي بها في الوقت الحاضر، ولأي أمر سوف يحدث هنا بعدئذ، برؤيتي لهذه المرأة المسكينة واقفة على باب منزلها لتحمي نفسها من البرد أو لتنتظر حتى يفتح الباب، وعليه أستطيع الذهاب إلى منزلي بسكينة، ويجب أن أشفي نفسي من الوهم الذي سبب لي هذا الإحراج.
بتكويني هذا الاستنتاج، اصطنعت جهداً استثنائياً وأدرت رأسي.
آه، غابرييل، غابرييل، كم كانت مرعبه! المرأة الطويلة لحقت بي بخطوات صامتة، كانت خلقي تماماً لمستني تقريباً بمروحتها، وشبه أمالت برأسها على كتفي.
لماذا كانت تفعل ذلك؟ هل كانت لصّة؟ هل كانت بالفعل رجلاً منتكراً؟ هل كانت عجوزاً عفريتة خبيثة رأت بأنَي كنت خائفاً منها؟ هل كانت شبح استعاد رؤى الماضي بسبب خوفي؟ هل كانت خبر سخرية للنفس البشرية؟
لا أستطيع أن أخبرك بكل ما فكرت فيه بتلك اللحظة، لقد أطلقت صرخة وانطلقت مثل طفل في الرابعة من عمره يعتقد أنه رأى غولاً ولم أتوقف حتى وصلت إلى شارع مونتيرا.
ومرّة واحدة تلاشى خوفي كالسحر، وهذا على الرغم من أن شارع مونتيرا كان منعزلاً من ثمّ أدرت رأسي لأنظر إلى شارع خاردينس، استطعت رؤية طوله كاملاً، كان مضاءً كفاية بالنسبة لي لأرى المرأة الطويلة إذا كانت قد انسحبت في أي اتجاه، لكن لم أستطع رؤيتها واقفة، ماشية، أو في أي مكان! ومع ذلك كنت حريصاً على أن لا أعود من ذلك الشارع مرّة أخرى.
تلك الخسيسة - قلت لنفسي- قد انسلت إلى باب منزل آخر لكنها لا تستطيع الحراك دون أن أراها.
بعد ذلك رأيت حارس شارع كاباييرو دى غراثيا قادماً، عندها صرخت دون أن أتزحزح من مكاني، قلت لهم أن هنالك رجلاً متنكراً بزي امرأة في شارع خاردينيس. أشرت له أن يذهب عبر شارع بيليغرو و شارع أدوانا، بينما أبقى أنا بمكاني، وبهذه الطريقة لن يهرب منّا الرفيق الذي كان على الأغلب لصاً أو قاتلاً، وبالفعل قام الحارس بفعل ما قلت، فقد ذهب من جهة شارع أدوانا، وعندما شاهدت مصباحه قادماً عبر شارع خاردينس مضيت أنا أيضاً عازماً. التقينا في منتصف الطريق دون أن نعثر على روح، على الرغم من أننا تفحصنا باباً تلو الآخر.
- قال الحارس: يبدو أنه دخل إلى منزل ما.
- يبدو ذلك، أجبته فاتحاً بابي لهدف ثابت وهو الانتقال إلى شارع آخر غداً.
بعد لحظات قليلة كنت في غرفتي، وكنت دائماً أغلق مزلاج الباب كي لا أزعج حارسي الطيب خوسيه. والذي كان ينتظرني تلك الليلة. ولسوء حظي فإن ليلة الخامس عشر و السادس عشر من تشرين الثاني لم تنتهي بعد.
- سألته في دهشة: ما الذي حدث ؟
- الرائد فالكون كان هنا - أجابني بإثارة واضحة - ينتظرك من الساعة الحادية عشرة حتى الثانية والنصف، وأخبرني أنك إذا عدّت إلى البيت لتنام يفضّل ألا تخلع ملابسك لأنه سوف يعاود القدوم فجراً.
كانت الكلمات قد تركتني مرتعشاً بالأسى والحيطة كما لو أنها نبأتني بموتي. عرفت أن والدي الحبيب، في بيته في خيان، كان يعاني من هجمات متكررة وخطرة من مرضه العضال. وكنت قد كتبت لأخي بأنه إذا حصل انتهاء خطير مفاجئ للمرض، فينبغوا أن يراسلوا الرائد فالكون، والذي بدوره سوف يعلمني بطريقة ملائمة.فلذلك لم يكن لدي أدنى شك بأن والدي قد مات.
جلست على الكرسي انتظر بزوغ الفجر وقدوم صديقي، ومعهما أنتظر خبر سوء حظي الكبير. الله وحده يعلم كم عانيت في هاتين الساعتين القاسيتين من الانتظار. وفي الأثناء، تجمعت في عقلي ثلاثة أفكار منفصلة، على الرغم من أنها تبدو غير متشابهة، إلا أنها تتطلب آلاماً لتبقى في مجموعة مفزعة. فقد كانت الأفكار هي: خسارتي في اللعب، ولقائي المرأة الطويلة، وموت أبي العزيز.
وبتمام الساعة السادسة قدم الرائد فالكون إلى غرفتي، ونظر أليّ بصمت، فدفعت نفسي بين يديه، انتحب بألم، فقال لي وهو يلاطفني " نعم يا صديقي، ابك، ابك".
IV

صديقي تيليسفورو- تابع غابرييل بعدما شرب كأساً آخر من النبيذ - أيضاً استراح لحظة عندما بلغ هذه النقطة ثم تابع على الشكل الآتي:
إذا كانت قصتي قد انتهت على هذا الشكل فإنك لن تجد فيها أي شيء خارج عن الطبيعة أو خارق، فسوف تقول لي كما قال لي الرجل ذو الأحكام الجيدة في ذلك الوقت، أنّ كل رجل لديه خيالات حيوية هو موضوع لحافز من الخوف أو غيره، وأن خوفي جاء من حماقة من امرأة وحيدة في الشارع، وأن هذا المخلوق العجوز في شارع خاردينس كان فقط مجرد متشردة ضالة كانت تود أن تتسول منّي عندما صرخت وركضت. من جهتي، حاولت أن أصدق ذلك، حتى أنّي هممت بتصديقها بعد عدّة أشهر. ومع ذلك سوف أعطي سنين عمري كي لا أقابلها مرّة أخرى. لكن اليوم سوف أعطي كل قطرة من دمي لمقابلتها مرّة أخرى.
- لماذا؟
- لأقتلها على الفور.
- لست أفهمك.
سوف تفهمني عندما أخبرك بأنني التقيت بها مرة أخرى قبل ثلاثة أسابيع، قبيل ساعات من معرفتي للخبر المرعب لوفاة خواكينا المسكينة.
- احك لي...احك لي.
هنالك القليل لأحكيه، لقد كانت الساعة الخامسة فجراً ولم تكن الدنيا قد انبرت بأكملها، على الرغم من أن الفجر كان مرئياً من الشارع نحو الغرب. كانت مصابيح الشارع قد أزيلت لتوها والحارس قد ذهب. وبينما كنت أسير عبر شارع براد لأذهب إلى شارع لوبو، عبرت المرأة المروعة من أمامي دون أن تنظر إلي وأعتقد أنها لم ترني.
كانت ترتدي الثياب ذاتها وتحمل المروحة عينها كما لو كانت قبل ثلاث سنوات. خوفي وحذري كانا أعظم من أي وقت. عدوت بسرعة عبر شارع بارد حينما رأيتها على الرغم من أني لم أبعد عيني عنها، لأضمن أنها لم تنظر خلفها، وعندما بلغت الجهة الأخرى من شارع لوبو كنت ألهث كأني أسبح في تيار عنيف. بعدها بدأت بسرعة جديدة باتجاه منزلي. تمتلئ نفسي بالسرور عوضاً عن الخوف، لاعتقادي أن الساحرة البغيضة قد قهرت وجزت من قوتها، من الحقيقة أني مررت بجانبها ولم ترن.
وفجأة، وعندما اقتربت من منزلي غمرني اندفاع سريع من الخوف،كما لو أن العفريتة العجوز قد رأتني وتعرفت علي، لكنها زعمت أنها لم تتعرف علي لكي تدخلني إلى شارع لوبو،حيث كان شبه مظلم، وحيث تستطيع مهاجمتي بأمان، وأنها تريد اللحاق بي، وبالفعل كانت بجانبي.
حينها نظرت حولي، وكانت هناك تكاد تلمسني بملابسها، تحدجني بعينيها الصغيرتين تستعرض الكهف المظلم لفمها، تهوي على نفسها بطريقة ساخرة كما لو أنها تسخر من خوفي الطفولي.
انتقلت من الخوف إلى الغضب الشديد، إلى الغيظ المتوحش البائس. اندفعت إلى المخلوقة الضخمة وقذفتها إلى الحائط واضعاً يدي على حنجرتها،تحسست وجهها وصدرها والخصل الشاردة من شعرها الرمادي إلى أن اقتنعت كلياً أنها إنسانة وامرأة.
حينها أطلقت صراخاً كان أجشاً ولاذعاً في نفس الوقت. بدا مزيفاً وبدت لي كأنها صرخة نفاق تعبر عن الرعب الذي لم تشعر به بالفعل. مباشرة بعد ذلك قالت، تفعل كأنها يبكي، لكنها لا تبكي، ناظرة إلي بعينيها الضبعيتين:
- لماذا اصطنعت مشادة معي؟
هذه الملاحظة زادت من خوفي وحففت من غضبي.
- إذاً أنت تذكرين – صرخت - أنك رأيتني بمكان آخر.
- ينبغي أن أقول ذلك عزيزي – أجابت بسخرية – ليلة القديس ايخينه في شارع خاردينيس، قبل ثلاثة أعوام.
شعرت بالبرد داخل أوصالي.
سألتها – دون أن أدعها:
- لكن من أنت؟ لماذا تلحقين بي؟ ماذا بيني وبينك؟
أجابتني بشزرة شيطانية:
- أنا امرأة ضعيفة مسكينة، أنت تكرهني وتخافني دون أي سبب، إذاً لا تكرهني ولا تخف مني، قل لي سيدي العزيز لماذا كنت خائفاً مني المرة الأولى التي شاهدتني فيها؟
- لأني أقرفك منذ ولادتي، لأنك الروح الشيطانية لحياتي.
- يبدو أنك تعرفني منذ أمد بعيد، حسناً، انظر بني، وأنا أيضاً أعرفك.
- تعرفيني؟ منذ متى؟
- منذ قبل أن تولد، وعندما رأيتك تمر بجانبي منذ ثلاثة سنوات قلت هذا هو.
- لكن ما أنا بالنسبة لك؟ وما أنت بالنسبة لي؟
- الشيطان، أجابت العفريتة باصقة في وجهي، محررة نفسها من قبضتي، راكضة مبتعدة برشاقة مدهشة.
رفعت تنورتها برشاقة مدهشة أعلى من ركبتها ولم تصدر قدماها أي ضجيج خفيف وهي تلامس الأرض.
كان من الجنون أن أحاول اللحاق بها، من الجنون أن أحاول الإمساك بها، بالإضافة أن الناس بدأت بالمرور بالقرب من كنيسة القديس خورنيمو وفي شارع برادو أيضاً. لقد كان النهار قد حل، والمرأة الطويلة تابعت عدوها أو طيرانها إلى شارع أوبرتاس الذي كان مضاءً من الشمس وهناك قد توقفت لتنظر إلي، لقد لوحت إلي بمروحتها المعلقة مرة أو مرتين مهددة، و من ثم اختفت وراء زاوية.
انتظر قليلاً يا غابرييل، لا تطلق أحكاماً على هذه القضية التي تتلاعب بروحي وحياتي، اسمعني دقيقتين أخرتين.
عندما دخلت المنزل تلاقيت مع الرائد فالكون والذي جاء ليخبرني أن خواكينا، خطيبتي، كل آمالي وسعادتي وفرحي على الأرض قد ماتت بالأمس في منطقة القديسة أغيدا. الأب السيئ الحظ كان قد راسل فالكون ليخبرني، أنا الذي كان يجب أن أتنبأ بذلك قبل ساعة من الآن، عندما قابلت الروح الشيطانية لحياتي!.
أتفهم الآن لأنه يجب أن أقتل عدوة سعادتي، العفريتة الخسيسة، التي تعيش ساخرة من قدري؟
لكن لماذا أقول أقتل؟ هل هي امرأة؟ هل هي إنسانة؟ لماذا لدي شعور مسبق بوجودها منذ ولادتي؟ لماذا تعرفت علي عندما شاهدتني أول مرة؟ لماذا لا أراها إلا عندما تحل كارثة بي؟ هل هي الشيطان؟ هل هي الموت؟ هل هي الحياة؟ هل هي المسيح؟ من هي؟ من هي؟

V

سوف أوفر عليكم أصدقائي الأعزاء- تابع غابرييل- الجدل والملاحظات التي استعملتها لأرى إن كنت أستطيع تهدئة تيليسفورو، لأنها متشابهة، تماماً متشابهة، والتي أنتم أنفسكم تجهزونها لتثبتوا أنه لا شيء خارق أو خارج عن القدرة البشرية في قصتي. وسوف تتمادون وتقولون أن صديقي كان نصف مجنون، وكان دائماً كذلك، أو على الأقل كان يعاني من مرض أخلاقي الذي يطلق عليه البعض "فوق الرعب" والبعض "جنون العواطف"، وحتى الموافقة على ما رويت عن المرأة الطويلة، يجب أن يعزى إلى المصادقة بالتواريخ والأحداث، ونهايةً، العجوز المسكينة قد تكون الأخرى مجنونة، أو لصة، أو متسولة، أو قوادة كما قال بطل القصة لنفسه في لحظة صفاء.
افتراض ملائم جداً – وضح زملاء غابرييل- وهذا الذي كنا في صدد قوله.

حسناً، استمعوا عدة دقائق أخرى، وسوف ترون أني كنت مخطئاً حينها، تماماً كما أنتم مخطئون الآن. الشخص الوحيد الذي لم يخطئ كان تيليسفورو. إن من الأفضل التفوه بكلمة "جنون" بدلاً من البحث عن تفسيرات لأمور تحدث على الأرض.
- تحدث، تحدث...
- سوف أتحدث، وهذه المرة بما أنها الأخيرة سوف أصل موضوع القصة دون أن أشرب كأساً من النبيذ.
بعد عدة أيام من هذا الحديث مع تيليسفورو أرسلت إلى مقاطعة ألياثيتي بحكم موقعي كمهندس جبال، لم تمض أسابيع كثيرة حتى عرفت من مقاول في الأعمال العامة أن صديقي التعيس أصيب بنوع رهيب من اليرقان، حوله كلياً إلى اللون الأخضر، مستلقياً على كرسي خفيض دون أن يعمل أو يرغب في رؤية أحد، ينتحب ليلاً نهاراً بغمّ وحزن مؤلم. لقد أعطى الطبيب آمالاً لشفائه. هذا الذي جعلني أدرك لماذا لم يجب على رسائلي، مما اضطرني للجوء إلى الرائد فالكون كمصدر للمعلومات عنه، ومن حين إلى آخر كانت التقارير تصبح أكثر كآبة.
بعد غياب دام خمسة أشهر عدت إلى مدريد في اليوم ذاته الذي أحضرت برقية خبر معركة تيتوان. أذكر ذلك كأنه اليوم، في تلك الليلة ابتعت صحيفة كوريسبودينثيا دى اسبانيا وأول ما قرأت كان خبر وفاة تيليسفورو، وكان دعوة لجميع أصدقائه لحضور جنازته.
كونوا متأكدين من أنّي حضرت الجنازة، عندما وصلت مقبرة القديس لويس، حيث ركبت إحدى العربات القريبة من النعش، ذهب انتباهي إلى امرأة قروية. كانت عجوزاً وطويلة جداً، كانت تضحك بدناسة عندما شاهدتهم يخرجون الكفن. من ثمّ وضعت نفسها أمام حامي الدفن وبابتهاج المنتصرين أشارت لهم بمروحتها الصغيرة إلى الطريق المؤدية إلى قبره المفتوح المنتظر.
لاحظت من النظرة الأولى، والتي صاحبها الخوف والذهول، بأنها عدوة تيليسفورو الحقودة. كانت تماماً كما وصفها لي، بأنفها الضخم، وعينيها الشيطانية، وفمها المرعب، ومنديلها القطني، وتلك المروحة الصغيرة والتي بدت في يدها كأنها صولجان السخرية.
لاحظت مباشرة أني كنت أنظر إليها، وثبتت نظرها علي بطريقة غريبة كما لو أنها تعرّفت علي، كما لو أنها عرفت حقيقة أن الرجل الميت قد أخبرني عن الأحداث بشارع خاردينس ولوبو، كما لو أنها تتحداني، كما لو أنها أعلنتني الوريث للكره الذي صانته لصديقي سيئ الحظ.
أعترف أنه في ذلك الوقت كان خوفي أعظم من حيرتي لتلك الحوادث والمصادفات الجديدة. يبدو واضحاً لي أن هنالك بعض العلاقات الخارجة عن الطبيعة، سابقة على حياة الأرض، كانت قد وجدت بين العجوز الغامضة و تيليسفورو. لكن في الوقت الحالي اهتمامي الوحيد ينصب بحياتي وحدي، بروحي، بسعادتي، والتي سوف تتعرض جميعها للخطر العظيم إذا ما ورثت هذه اللعنة.
بدأت المرأة الطويلة بالضحك، أشارت إلي باستخفاف بمروحتها، كمل لو أنها قرأت أفكاري وأن خوفي قد انتشر على الملأ. اضطررت لأن أتئك على يد أحد أصدقائي لأمنع نفسي من السقوط، ومن ثم صنعت إيماءة شفقة أو ازدراء، استدارت على كعبيها وذهبت من خلال المقبرة، أدارت رأسها نحوي وهوّت بالمروحة وانحنت إلي في الوقت نفسه، انحرفت باتجاه القبور بدلع جهنمي لا يوصف حتى اختفت بين متاهة الأضرحة.
أقول دائماً، منذ خمسة عشر سنة مضت لم أرها مجدداً فإذا كانت إنسانة فإنها قد ماتت منذ زمن، وإن لم تكن أقتنع أنها احتقرتني كثيراً للتدخل معي. الآن، أحضروا نظرياتكم! أعطوني آرائكم حول هذه الأحداث، هل مازلتم تعتبرونها كما لو أنها طبيعية تماماً ؟؟
!

1 comment:

Anonymous said...

esh te3lat el mar2a el 6aweeleh bel a5er?