فقدان
رامز الحداد
رآهما بعينيه الخضراوتين يسيران في الطريق، كانا زوجين من إحدى الدول الآسيوية، عرفهما من شكل عينيهما المميز. لم يلفت انتباهه أنهما ليسا من أهل البلد، ولا تلك الحقائب الضخمة التي يحملانها على ظهريهما، ولا حتى لباسهما الذي لم يكن أحد ليرتديه في بلده، لا لعدم جماله لكن لعقدة النقص التي تعصف في عقولهم. ما لفت انتباهه في الحقيقة هو طريقة مشيتهما، يمسكان بأيدي بعضهما البعض وهي تداعب ذراعه بحنية تفوق حنان مداعبة الأم لطفلها الرضيع. كانا ملتصقين ببعضهما لدرجة لا تسمح حتى للهواء أن يفرق بينهما. رآهما كذلك فتبعهما، تنهد، تذكر تلك الليلة حين كان معها، يومها كان قد أحضر لها قصيدة استنزفت كتابتها كل طاقاته العشقية مازجاً كلماتها بدماء قلبه الجريح، تلاها لها بصوته المرتجف وحين انتهى نظر إليها ليرى وقع كلماته في روحها، كانت تكتم ضحكة سخرية انفجرت بأعلى صوتها وهي تقول: "ما هذا يا روميو! يا لسخافتك، قصيدة حب!" متبعة إياها بضحكة لم تتوقف لدقائق.
قطع صوت الزوجين أفكاره، سمعهما يقولان كلمات بسيطة، فسرها في عقله بأن الشاب يقول للفتاة "أحبك" وهي ترد عليه "وأنا أحبك أكثر"، لم يحتج لقاموس ليفسر كلماتهما بل كانت عيناهما تكفي وأكثر. استدارا نحو محل للعصير وطلبا كأسين من عصير الليمون، أخذ الشاب كأساً وأعطاها إياه وأخذ آخراً له. توقف يتأملهما سرح في أفكاره متذكراً يوم عيد ميلادها حين استيقظ من الساعة الرابعة فجراً ليعد نفسه لموعد لقاءهما المتفق عليه الساعة السادسة مساءاً. حلق ذقنه ولبس بدلته السوداء ورش قليلاً من العطر، جهز وردته الحمراء وهديتها وانتظر في غرفته أن يأتي موعد اللقاء. في الساعة السادسة والنصف حضرت إلى المقهى حيث أعطاها سوارا مدوراً من الفضة كتب عليه من الداخل؛ "أوقف قلبي إذا ما شئت، إن أزعجك وأنت فيه صوت النبض"(1) من ثم أعطاها الوردة الجورية الحمراء، أخذتها ورمتها إلى جانبها وقالت: "وردة حمراء!! يبدو أنك تكثر من مشاهدة الأفلام الرومنسية".
انتهى الزوجان من شرب العصير من ثم تابعا مسيرهما متلاصقين كما كانا، يتحدثان ويضحكان وهو خلفهما يراقب ويتفكر حتى وصلا إلى الفندق ودخلا إليه، توقف كأنما يودعهما، رفع نظره إلى السماء، أخذ نفساً عميقاً، ً من ثم تابع
المسير تلفحته نسمة هواء باردة جففت ما تبقى في عينيه من الدموع.
.............................................
(1)
الكلمات التي بين الأقواس للصديق رفقي عساف