Friday, March 30, 2007

ماريا


ماريــــّا
تأليف: مانويل تالنز
ترجمة: رامز الحداد

بعد أسابيع قليلة، كانت القضية قد أغلقت عند وصول رسالة من السفارة الكندية في مدريد، تخطر بشكل رسمي بأن تشريح الجثة الشرعي أثبت بأن " جون أوليسس ماكبِن" قد عانى من ورم دماغيّ ذي نوع إشعاعي خبيث، في النصف الأيمن من دماغه. جاء الإعلان متزامناً مع رسالة معنونةَ من مشفى فكتوريا الملكي، وفيها يصادق المسؤول الطبيب عن اكتشافه للورم قبل شهر- في أيلول من عام ألف وتسعمائة و اثنين وتسعين- عندما بدأ يشتكي من آلام بالرأس، لكنّه رفض أي نوع من العلاج، طبيَّ كان أم جراحيّ. إذ كانوا قد حاولوا إقناعه – تابع الخطاب- إلاّ أنّه اختفى عن الأنظار ولم يعرفوا عنه شيئاً حتّى ذلك الحين.
أما أنا فقد تعرّفت عليه بشكلٍ عابرٍ في يوم سبت من نهاية شهر تشرين الأول، عندما طُرق باب البيت، كان الوقت حينئذ الثالثة ظهراً، وكان الطرق بأطراف الأصابع قد أزعج قيلولتي التي كنت قد اتخذتُ الأريكة مكاناً لها. ذهبت لأفتح الباب محمّلاً بمشاعر الدهشة والانزعاج، فقد كانت تلال مارخانا منعزلة ونادراً ما كان يأتي أحد إليها، إلا زوار يوم الأحد العرَضيين الذين علِقوا بالجبال.
وجدت نفسي أمام رجل طويل جاف كإنجلوسكسوني فريد اعتاد أن يكون كذلك دون أن يفقد اتزانه. كان ذو ملامح حادّة وشعر ناصع البياض، ذو عيون رمادية وحواجب كثيفة. كان له مظهر أمير ويلز ولكن بهيأة أقل والتي أربكني هدوئها الأصيل. كان يرتدي ثياباً خريفية معتدلة، منتعلاً خفّاً مريحاً. كان يتّكئ مستنداً على عصاً ويلهث بسبب مشيه الطويل.
قال لي : عمتَ مساءً، اسمي "جون ماكبِن" وأنا كنَديٌ وقد كنت في هذا البيت قبل خمسين عاماً، بعيد الحرب. هل أستطيع الدخول من فضلك؟
كان يتحدّث القشتالية بلهجة إنجليزية خفيفة، لكن لفظه كان صحيحاً خالياً من أي تلعثم. ألهمتني ثقته ووجدت نفسي أتنحى جانباً، أما هو فمضى إلى الداخل.
دعوته للجلوس، وفي هذه الأثناء استعاد أنفاسه وذهبت أنا لأعدّ القهوة. شعرت بالفضول لمعرفة أسباب الاشتياق الذي أدّى إلى جعل هذا الرجل العجوز يعود بعد وقت طويل إلى مكان منعزل مثل هذا، ومع ذاك الفضول كان هنالك اهتمام لمعرفة بعض التفاصيل القديمة عن البيت الذي اشتريته في عام ألف وتسعمائة وسبعة وثمانين لكي أبتعد بأيام العطل عن ضجّة فالنسيا.
فأنا رجل كثير الانشغال، إذ أنّ عالم الإعلانات يتطلب الكثير من الاهتمام ويسبب الكثير من التوتر لدرجة أنّي أتوجه أيام الجمعة مساءً عبر الطريق السريع نحو جساريس متجنباً زحمة السير. لا يوجد لدي هنا حتى التلفاز، فقط الكتب، والموسيقى، والهواء النقي، ونار المدفئة وبعض الأحذية الرياضية الخاصّة بالجبال والمناسبة للسير عبر الجبال.
قلت له محاولاً التصرف بأدب" ما أجمل لهجتك يا سيّدي"، في الوقت الذي كنت أسكب فيه القهوة في فنجانين وضعت أحدهما على الكرسي أمامه. وبالكاد لاحظ قولي .
- كنت أدرّس اللغة الإسبانية، وقد تقاعدّت منذ زمن.
لقد كنت هنا إذن في الأربعينيّات....
- أجابني متلمّحاً جواره: البيت لم يكن هكذا، كان أكثر تواضعاً ولكن بنفس تقسيمه الحالي. لاحظت أنّك أدخلت عليه بذوق طابعاً عصرياً، محافِظاً على مظهره الأصلي. و من ثمّ سألني: ما اسمك؟.
قلت له اسمي، ومن ثمّ روى لي قصّته، فقد كان من أوتاوا
1 وأتى إلى إسبانيا في الحرب الأهلية مع كتيبة " ماكنزي بابنياو2" لينخرط بالقوات الجمهورية. إذ كان أحد الشباب الذين استجابوا من بين العالم للنداءات التي كانت شائعة حينها. وبعد انتهاء كلّ شيء بقي في الجبال مع مقاتلي ثوار " العيون الزرقاء" في تلّة لوس كوراس.
ثم علّق قائلاً: بالنسبة لي فقد قدّروني كثيراً، فقد كنت أعرف باسم خوان " الكندي"، لقد كانوا زملاءً رائعين، الشيء القليل الذي كنّا نملكه كان كلّ شيء بالنسبة لنا.
قلت له: لم أكن أعتقد أنّي سوف أتشرف بمعرفة أحد الثوار الحقيقيين.
ابتسم ثم قال:
كنّا ننزل من وقت إلى آخر إلى البلدة لكي نبحث عن الطعام، وكان هنالك نساء يخدمننا، لكن الحرس المدني كان قد ضيّق الحصار علينا وكان استمرارنا بالحياة يصعب مرّة تلو مرّة، فإن الفاشيين كانوا قد دبّروا مكيدة لنظرائهم عن طريق الثوار، إذ كانوا قد تغلغلوا فينا بشكل قد سبب لنا الضرر الكبير.
- وكيف انخرطّت بصفوف الثوار؟
بعد خسارة الحرب عزمت كالكثير على الهرب بقارب إلى أليكانته، لكنّ ذلك كان مستحيلاً فبكل بساطة لم يكن هنالك قوارب، وهكذا انتقلت إلى السرّية والتكم، ومن ثمّ توجّهت إلى الجبال. كنت قد أحضرت معي رفيقاً من سيغودا وكان اسمه فلوريان، كان شجاعاً جداً ، من كان يدري ماذا سيحصل معه.
- لقد كانت حياة قاسية أليس كذلك؟
كثيراً، ففي العام ألف وتسعمائة واثنين وأربعين وبعد نهاية العديد من أشهر التجوال مشرّداً مثل حشرة، أعسكر حيث أعسكر، أنام في النهار وأسير بالليل، بقي لدي القليل من الأمل في المستقبل. تخيّل أننا لم نجتز الأنهار عبر الجسور قط إلا عبر المياه، وذلك تحسباً للمدنين. وفي شتاء البرد القارص هنا، ماذا أقول عن ذلك! كنّا نضع مراهم تخفيف الألم لنتقي شر البرد ونشعر بالدفء. لقد كانت فظيعة، فظيعة.
كان حرف العلّة الياء قد لطّف قسوة الكلمات السابقة.
- جلست بصمت ثم قلت:
لقد قلت أنّك كنت في هذا البيت؟
نعم, كان ذلك في ربيع عام ألف وتسعمائة وثلاثة وأربعين، " العيون الزرقاء" رئيسنا بعثني مع شخص آخر لاستكشاف المنطقة ولكي نبحث عن نقطة جديدة نعسكر فيها، كنّا قد وصلنا هنا عندما كانت الشمس تشرف على الإشراق، كان اسم رفيقي أكيلِس. لم تنبح علينا الكلاب وهذه كانت إشارة جيدة، لأنّه وفي بعض البيوت كانت الكلاب قد درّبت لكي تميز رائحتنا ولا تتهيج، فكنا نعبق برائحة كريهة ناتجة عن عدم الاستحمام. الزوجان اللذان استقبلانا كان لديهم خوف من الانتقام، لكن الزوجة قالت أن باستطاعتنا تناول طبق دافئ- أمعن "جون ماكبِن" نظره إلى المكتب الذي على يميني وأشار إليه بإصبعه- قد جلست في تلك الزاوية ، كنت قد أتممت أربعاً وعشرين عاماً، وكنت قذراً بلحية عمرها عدّة أسابيع. إذاً، وفي هذه الأثناء أكيلِس وأنا تناولنا الحساء، من ثمّ فُتِح باب تلك الحجرة- أشار الآن نحو غرفة المكتب بإصبعه المرتعش- وظهرت ابنتهم، ثمرة زواجهم.
بدأت القصة تمتعني.
- وكيف كانت ؟
افترض أنّك تخيّلت بإحدى المرّات مريم العذراء عندما أتاها جبريل الملاك، لقد كانت هكذا، كانت لا تزال في سن المراهقة، كانت أكثر فتاةً رائعةٍ رأيتها على الإطلاق. سمعت اسمها، ماريّا. صرخت عليها والدتها بمزاج عكر إذ كانت قد أغلقت الغرفة على نفسها. لقد خافت بلا شك، كأننا فعلنا لها شيئاً، لأن الثوار الذين يسيرون عبر الجبال دون أنثى يعتبروا خطراً.
حاولت بشكل عقلاني إعادة بناء حالة الرعب التي تملكت الأبوان ودهشةِ الفتاة.
- وهل أطاعت هي؟
طبعاً- حرّك رأسه بشكل إيجابي- ماذا كانت ستفعل إن لم تطع؟. لقد رأيتها فقط لبضعة ثوانٍ، لكنها كانت كافية لتعدل ذلك اليوم. على الرغم من أن ذلك يبدو لا يصدق، فقد كان اليوم الأول في حياتي.
لاحظت أنّ حارس الجسر العجوز، وبعد الاعترافات الكثيرة قد انتهى من الاستذكار، وبعد فترة من الهدوء أخذ يتأمل الفراغ.
- وماذا حصل بعد ذلك؟ سألته بخبث خوفاً من أن يتركني في منتصف القصّة.
هبط من السحاب وقال:
بعد قليل خرجت لأبحث عن شيء من الحطب لكي يدرك الزوجان أننا كنّا أشخاصاً طيّبين. حملت بعضها على كتفي البرونزي إلى كهف الشياطين، وبهذه الأثناء سمعت صوت نباح أتبعه صوت إطلاق نار، فقد أُخِذَ الحرس المدني على حين غرّة، ردّ أكيلِس على إطلاق النار وفي أثناء المناوشات قُتِل.
بعد يومين عدّت بكثير من الحرص، ولم أجد أثراً للعائلة التي كانت هنا.
لقد كانت نجاتك أعجوبة.
أعجوبة لدرجة أشعرتني بالذنب، فنزلت به إلى المنحدرات ودفنته في آلتو غاسبر
1. وبعد عدّة أشهر كان بإمكاني الهرب من إسبانيا والتوجّه إلى البرتغال عبر جبال تراس أوس، والتي كنت سوف أرجع إلى كندا من هناك.
- هل كان هذا كل شيء؟
ابتسم دون رغبة وقال:
نعم، ابتداءً من هنا لم يحدث شيء ذو قيمة.
مضت عدّة دقائق صمت، تاركاً إيّاه يستعيد ذكرياته عندها اصطبغت أجفانه باللون الأحمر، وبالنهاية مع تلك الحماسة الباقية، أبدى وهم بعض من الأحداث التي بقيت، مثبتاً نظره ومطلقاً ما في داخله .
أتصدقني لو قلت لك أنه لم تمضِ أيّة ليلة منذ ذلك الحين ولم أحلم بتلك الفتاة.
لم يتحدث أكثر، ولاحظت عليه الإعياء.
-هل تريد أن تستريح؟
لقد قدّته إلى غرفة الزوّار وعدّت للاهتمام بأموري. وفي نهاية فترة صمت ظهر من جديد في الصّالة قال أنه يريد أن يتابع استكشاف المنطقة ويعاود خطواته مستعيداً ذكرياته. شكرني ألف مرّة لحسن ضيافتي، وودّعني، ثم شاهدّته يتحرّك بعيداً إلى جبل مرتفع.
عندما تمارس مهنة كالتي اخترتها، تنغمس يومياً بتمثيل مزيف للرغبات، الواحد يعتاد تجاهل الأمور البسيطة التي تنشأ دون نفاق عندما لا يكون هنالك شي للظفر به ولا يكون هنالك مستقبل. قد فكّرت كثيراً بتلك الوداعات، وأتعجب لماذا شوّهت إلى هذا الحد-لا أدري- لكن الذي أذكره هو نفس العادات الحقيقية، والآن أنا متأكد كلياً أنّ يديه الدافئتين كانت تريد أن تنقل صفاء المسافر المرهق الذي شاهد الميناء في أوديسيا طويلة، وفيها الحلم غير الواقعي الذي قاد لإبقاء الأحاسيس عن بعد دائماً مساوٍ لمسافة قاربه الشراعي.
مضت عدّة ساعات، كنت فيها قد احتسيت عدداً كبيراً من فناجين القهوة عندما قاطع صوت زقزقة العصافير الصاخبة صدى إطلاق عيارٍ ناري، حيث نزل دويّه عبر آلتو غاسبر،لم أعر ذلك أي اهتمام فالصيد يكثر بالخريف. قبل أن أتابع الرواية التي أدهشتني ذهبت لإلقاء نظرة خاطفة عبر الشرفة، حيث كانت الشمس تستتر في انثناءات السماء، كل شيء كان أحمر كأفق الغروب. كان الرماد يعبق المدفأة بصوت فرقعته، ومن وراء ظهري كان جهاز الموسيقى يرسل همس صوت الفريد لفيرتز فندرلي يغنّي لحن اللّنسكي.
فوق كومودينو غرفة نوم الزوّار وجدّت في تلك الليلة صورة قديمة للثوار يتقدّمهم الكندي، وكان معها شيكاً موقعاً من الأميركان إكسبريس، وملاحظة مكتوبة بقلم ريشة، وفيها كان جون ماكبِن يطلب السماح للإزعاج الذي سببه لي
.

No comments: