Friday, March 30, 2007

الرسالة

الرسالة
تأليف: كارولينا كورتيس
ترجمة: رامز الحداد

عندما استلمت الزوجة الرسالة كانت قد انتهت من إعداد البيض المخفوق بالفاصولياء و قطع لحم الخنزير. كانت امرأة في ريعان الشباب، امرأة لم تحظ بنعيم حقيقي منذ زمن طويل، لكنها لا تتمنى لنفسها ذلك. سمعت صوت المفاتيح بقفل الباب، اتبعه صوت زوجها الجاف:
- هذه الرسالة لك، كانت في صندوق البريد.
كان زوجها ذا مزاج عكر. لم تكن الرسالة تحوي على اسم المرسل وعنوانه كما لاحظ الزوج حين تفقدها قبل أن يسلمها إيّاها. و بينما كان يخلع معطفه، تحدث كعادته عما عاناه في يومه، وكيف أنه سيقوم بطلب إجازة لأنه متعب جداً من العمل. فحسب ما يقول أن ما يبقيه واقفا على قدميه هي تلك الجرعات التي يشربها من الكحول بين الفينة والأخرى.
- لست بحاجة لأعذارك – تمتمت – فأنا أعرفك جيداً.
كانت قد ضاقت ذرعا بوابل الشكاوي اليومي، خاصة عندما يأتي للبيت مثقلا برائحة نفسه المشبوهة. لكنها في نهاية المطاف يجب أن تصبر عليه فهو ما يزال زوجها. ارتمى على مقعدٍ قديم ثم أردف قائلاً:
- تظنين أنك ذكية ها! الزوجة الكاملة!
تزامن ذلك مع تفحصها للخط المكتوب على مغلف الرسالة التي بين يديها.
- يا الهي! انتفضت.
ابتدأ قلبها بالخفقان بقوة، فمنذ وقت طويل لم تر فيه ذلك الخط، ومع ذلك تعرفت عليه بلحظتها. كانت مضطربة لدرجة أن زوجها لاحظ ذلك فقال مقطباً حاجبيه:
- اها! لدينا أسرار هنا، ممن هذه الرسالة إذا كان باستطاعتي المعرفة؟
ترددت قبل أن تجاوب:
- لا شيء ذا أهمية، إنها ملاحظة من الحانوتي، يبدو أن له دين علينا.
ولكي تخفي اضطرابها توجهت ناحية المطبخ ورجعت بصينية الطعام.
- هاك العشاء- قالت- تناوله قبل أن يبرد.
عادت إلى المطبخ مجدداً من ثم فتحت المغلف بيديها المرتعشتين، بينما كان عقلها الحائر يحاول إيجاد تفسير منطقي لهذه الرسالة. لأنها وبعد ردح من السنين قد أحيت مشاهد لم تعد حتى تذكرها.
- هذا خط يده، لا مجال للشك – قالتها بينما كانت الرؤيا لديها قد تعكرت.
كانت رسالة من عشيقها السابق حبها الحقيقي العظيم. حاولت استجماع قواها ودون حتى أن تجلس ابتدأت بالقراءة:
" عزيزتي، سوف تستغربين من رسالتي هذه. فبعد انتظار طويل ظهر شئ لم يكن بالحسبان، شئ مهم جداً لكلينا، فغداً يتوجب عليّ الإبحار إلى الولايات المتحدة، فقد ظهر لي هنالك ميراث وفير، لم يكن المال طموحي أبدا لكن ذلك يعني أننا لن نفترق بعد الآن."
من ثم دعاها للذهاب معه، دون أن تأخذ بالحسبان ما سوف يقوله الآخرون. فقط ما يهم هو أن تكون معه فقد كان مقتنعا أنه من لا يستطيع العيش من دونها. لكن إذا لم تحضر للقاء في المكان والساعة المحددين فسوف يفترض بأنها رفضت عرضه.
- هذا الطعام عديم الطعم – سمعته من غرفة الطعام – أحضري الملح.
- أنا ذاهبة، أنا ذاهبة، أجابته مخفية الرسالة.
بالكاد تذكرت كيف حدثت الأمور، تذكُرُ فقط الأوقات العصيبة التي قضتها عندما اختفى ذلك الشاب من حياتها دون أية تفسير، والآن....
- هل سوف تحضرين الملح أم لا ؟ كرر الزوج بفمه الممتلئ.
- أنا ذاهبة، أنا ذاهبة.
بعد أن أعطته المملحة، توجهت إلى الحمام وأغلقت الباب من الداخل، فهي تحتاج للاختلاء بعض الوقت بنفسها لكي تفكر. تأكدت من أن المزلاج مقفل وأخرجت الرسالة من جديد حيث كانت قد جعدتها في جيب المئزر.
الآن أدركت أنه لم ينسها- فما هي الظروف التي طغت على حياته؟- أدركت أيضاً شيئاً آخر أنها ما تزال تحبّه. حاولت أن تتخيل الموقف في الواقع، وفجأة شعرت بالرعب من هجر زوجها لكي تدرك اللقاء معه. قلبت الورقة فوجدت ملاحظة مكتوبة بقلم الرصاص تقول:
" إذا لم ترافقيني فسأجزم أنك تتخلين عن حبّي وبالمقابل سأعمل على نسيانك." ووجدت أيضاً تاريخاً قديماً منذ الثالث عشر من أيار لعام ألف وتسعمائة واثنين وسبعين.
في غرفة الطعام كانت الساعة تشير إلى الواحدة ليلاً
.

الرجل الذي لم يذق طعم النساء

الرجل الذي لم يذق طعم النساء
تأليف: رفائيل فرنانديز
ترجمة: رامز الحداد
1

يبلغ ألفونسو الثانية والعشرين من عمره، لديه رغبة ملحة في التخلي عن عذريته. اختلق كذبة وحدثها لوالديه:
- هذا الصيف سوف أبحث عن عمل في انجلترا، أريد تعلم اللغة بشكل سليم.
لكن السبب الرئيسي لذهابه كان أنه قد قرأ في إحدى المواقع الإلكترونية (يوميات نادل في الديسكو) وفيها أن النساء الإنجليزيات هنّ النساء الأسهل نيلاً في العالم.
وبالفعل ذهب إلى انجلترا وهناك نجح في الحصول على عمل في (الماكدونالدز) ولم ينجح في الحصول على أيّة فتاة.
وهكذا اكتشف أن النساء الإنجليزيات هنّ الأسهل نيلاً في العالم عندما يكنّ سائحات في بلد غير بلدهنّ.
فكر بالذهاب إلى المومسات، لكن لا، فهو يريد أن تكون المرة الأولى له مع فتاة يرغبها.
استقل حافلة ومن ثمّ مركب وتوجه إلى النرويج، ففي نفس الموقع الإلكتروني قرأ أن النساء النرويجيات يحببن الجمال الجسدي للرجال الإسبان.
وهناك، بحث عن عمل لكنّه لم يكن يفهم أي كلمة نرويجية.
تعرّف على فتاة يرافقها رجل مسن، فهم أنهما يبحثان عن مساعد بستاني للعمل في مزرعة في الريف، صعد معهما إلى السيارة التي سارت لساعات نام خلالها ألفونسو.

2

وصلوا نهاراً إلى المزرعة، لم يستطع ألفونسو تصديق ما يرى، ففي المزرعة يوجد فقط النساء،واللواتي ومن لحظة وصوله نظرن إليه وتحدّثن معه، لكنه لم يفهم عليهنّ واكتفى بالتبسم.
3

بعد مضي ثلاث ليالٍ في العمل في مخزن الغلال ينظّف، حضرت إليه فتاة جذبته من يده وقبلته، ارتجف ألفونسو،ومن ثمّ حضرت فتاة أخرى وقبلته أيضاً، وأخرى ، أصبحن ثلاث اللاتي يقبلنه ويلاطفنه معاً.
لم يفكر قط أنّ المرّة الأولى له سوف تكون هكذا.

4
مرّت الأيام، فقد فيها ألفونسو عذريته ، فقد مارس الحب تقريباً مع جميع الفتيات في المزرعة، وجميعهنّ يردن تكراره.
اليوم أحضر الرجل المسن قاموس نرويجي – اسباني الذي كان ألفونسو قد طلبه من المدينة.
تحدث مع الرجل المسن ومن ثمّ ترجم كلماته:
هذه.....هي....مزرعة تجريبية.......نحاول فيها شفاء..... بالأدوية الطبيعية......
هؤلاء الفتيات........ المصابات.....بالإيدز
.

جبل الأرواح

جبل الأرواح

تأليف: غوستافو أدولفو بيكر
ترجمة: رامز الحداد

استيقظت، في ليلة الموتى على صوت قرع الأجراس، لم أكن أدري كم كانت الساعة حينها، إلاّ أنّ صوت قرعها الرتيب الأبدي أحضر إلى ذاكرتي ذلك التقليد الذي كنت قد سمعته قبل فترة وجيزة في سوْريا].
حاولت النوم مجدداً لكن ذلك كان مستحيلاً، ففجأة راودتني الخيالات كجواد هائجٍ يصعب كبح جماحه. ولكي أقتل بعض الوقت قررت كتابة القصة، وهذا بالفعل ما قد تم.
كنت قد سمعت القصة في المكان عينه الذي حدثت فيه، وفي أثناء كتابتي، بتّ أتلفت خلفي يلُفني بعضاً من الخوف عندما أسمع صرير الزجاج المهتزّ في شرفتي بفعل الهواء الليلي البارد.
اصنع من القصة ما تشاء، فهكذا هي.

I
- اربطوا الكلاب، وانفخوا الأبواق لكي يتجمع الصيادون، ودعونا نعد أدراجنا إلى المدينة، فقد اقترب المساء واليوم هو يوم جميع القديسين ونحن في جبل الأرواح.
- بهذه السرعة!
- لو كان يوماً آخر غير هذا لما كنت غادرت قبل أن أنتهي من قطيع الذئاب الذي دفعته ثلوج ماتكايو إلى مغادرة جحوره، لكن اليوم مستحيل. فقريباً ستصدح أصوات الصلوات في معابد فرسان الهيكل، وأرواح الموتى سوف تبدأ بقرع أجراسها في مصلى الجبل.
- بهذا المصلى المحطّم! هاه! أتريد إخافتي؟
- كلا يا ابنة عمّي الجميلة، إلاّ أنّك تجهلين ما يحدث في هذه البلاد، وذلك لأنّك لم تنهِ العام فيها منذ قدِمتي من مناطق بعيدة عنها. امتطِ جوادك وسأمتطي أنا أيضاً جوادي وسأحاكي خطواتك، وفي هذه الأثناء سأروي لك هذه الحكاية.

تجمّع الفتية ضمن مجموعات صاخبة، وامتطى نبيلا بورخس وألكودييل خيليهما الأصيلين وتبع الجميع بياتريث و ألونسو ابنا النبيلين اللذان تقدما الموكب بمسافة قليلة.
وخلال الطريق روى ألونسو لبياتريث بهذه العبارات القصّة التي كان قد وعدها بها:
- هذا الجبل والذي يسمى اليوم جبل الأرواح كان يعود إلى فرسان الهيكل والذي ترين ديرهم هناك على ضفّة النهر. كان فرسان الهيكل محاربين ورجال دين في آن واحد. وعندما استولى العرب على سوْريا استدعى الملك فرسان الهيكل من أراضٍ بعيدةٍ بغية الدفاع عن المدينة من جهة الجسر، مطلقاُ بهذه إهانةً صريحةً لنبلاء قشتالة واللذين وحدهم يعرفون كيفية الدفاع عنها كما وحدهم من قبل قد احتلوها.
نشب عبر السنين بين الفرسان أصحاب النظام القوي ونبلاء المدينة حقد عميق كان قد انفجر في نهاية الأمر. كان الفرسان قد طوّقوا هذا الجبل بسياج، حيث احتجزوا الصيد الوفير لإرضاء حاجاتهم ولإمتاعهم.
أمّا النبلاء فقد قرروا تنظيم حملة صيد كبيرة في المنطقة المسيّجة على الرغم من المنع الصارم من الرهبان ذووا المهاميز، كما كانوا يطلقون على أعدائهم.

ذاع صيت التحدّي بينهم، فلم يتخذ أحد منحىً لوقف أولئك المهووسين بالصيد ولا الآخرين المصممين على عرقلته. انتهت الحملة، لم تكن تذكرها الوحوش البرية لكنها ستبقى حاضرةً في أذهان الكثير من الأمهات اللاتى فجعن بأبنائهن. فذلك لم يكن صيداً بل كان معركةً ضارية، فقد خُلٍّف الجبل يعجٌّ بالجثث، والذئاب التي أرادوا قتلها حصلت على مأدبة دموية. وفي النهاية تدخلت سلطة الملك معلنةً هجر الجبل الذي ألحق الخزي والعار للكثيرين. دفن الجميع أعداء وأصدقاء في باحة مصلى رجال الدين والذي يقع في الجبل نفسه، حيث ابتدأت الجثث بالفساد. يقولون أنّه ومنذ ذلك الحين وعندما تأتي ليلة الموتى تسمع صوت أجراس المصلى تقرع وحدها، وأرواح الموتى تنهمك في تمزيق أكفانها راكضةً كأنها في صيد رائع عابرةً بين الشجيرات والأشواك. فتنزب الظباء
1 بخوف، وتعوي الذئاب، وتطلق الأفاعي حفيفاً مرعباً. وفي اليوم الآخر يشاهدون آثار أقدامٍ رفيعة لهياكل عظمية في الثلج، ولهذا نطلق عليه في سوْريا اسم جبل الأرواح، ولذلك أردت الخروج منه قبل حلول الظلام.
انتهت قصة ألونسو تماماً عندما وصل الاثنان عند حدود الجسر الذي يقع طرف المدينة من ذاك الجانب. هناك، انتظر الاثنان بقية الموكب، وبعد أن انضما لهما اختفيا بين الشوارع المظلمة الضيقة لسوْريا.

II
انتهى الخدم من إزالة مفارش المائدة، المدفئة القوطية لقصر كونتات ألكودييل تطلق تنوراً حيوياً ينير بعض المجموعات من السادة والسيدات الذين يتواجدون إلى جانب اللهب يتحدثون بشكل ودّي، والرياح تجلد الزجاج المرصص للنوافذ الإهليليجية للبهو.
شخصان اثنان فقط بدوا منعزلين عن الحديث العام، بياتريث وألونسو. بياتريث تتابع بعينيها -المدهوشتين بتفكير غامض- رقصات اللهب. أما ألونسو فيراقب انعكاس النار تلتمع في حدقتيّ بياتريث الزرقاوتين.
احتفظ الاثنان بفترة عميقة من الصمت.
كانت الكهرمانات تروي حكايات حول ليلة الموتى، حيث كانت الأشباح والأرواح تمثل الموضوع الرئيس فيها، كما كانت أجراس كنيسة سوْريا تقرع من بعيد برنين رتيب حزين.
قال ألونسو كاسراً حاجز الصمت الذي اكتنفهم :
- ابنة عمّي الجميلة، قريباً سننفصل وربما للأبد. أعلم أنّك لا تحبين أرض القلعة القاحلة وعاداتها الحربية البسيطة البطريركية. قد سمعتك عدّة مرّات تتنهدين باشتياق، ربما كان ذلك لأحد الأبطال في مقاطعتك البعيدة.
اصطنعت بياتريث إيماءة لا مبالاة باردة، إذ كشفت جميع شخصية المرأة في ذلك الانكماش المتكبّر لشفتيها الرفيعتين.
- أو ربما كان ذلك لعظمة البلاط الملكي الفرنسي حيث كنت تعيشين فيها حتى الآن- استعجل الشاب بالإضافة- بطريقة أو بأخرى أرى أنّ فراقنا ليس ببعيد. عندما ننفصل أريدك أن تحملي تذكاراً منّي. أتذكرين حين ذهبنا إلى المعبد لكي نشكر الله عز وجلّ الذي أعاد لك صحتك والتي أتيت ترجينها في هذه البلاد؟ أتذكرين الجوهرة التي كانت تثبت الريشة فوق قبعتي؟ كم ستكون جميلة عليك متثبتةً حجابك فوق شعرك القاتم! لقد كانت زينة لعروس، فقد أهداها والدي لأمي وحملتها معها للمذبح، أتريدينها؟
- أجابته الجميلة، أنا لا أعرف كيف تسير الأمور في بلدك لكن في بلدي فإن قبولك لهدية يعني الالتزام. فقط في الحفلات الدينية وحدها تستطيع قبول هدية من قريبك ...
النبرة الباردة التي حملتها كلمات بياتريث أربكت الشاب لبرهة، وبعدما استجمع رباطة جأشه قال بحزن:
أعرف ذلك يا ابنة العم، لكن اليوم هو يوم جميع القديسين، وهو في بلدك قبل بلدي يوم احتفال ديني وتبادل هدايا.
أتريدين قبول هديتي؟
عضّت بياتريث برفق على شفتيها مادةً يدها لتأخذ الجوهرة دون أن تنبس بكلمة.
عاود الشابان التزام الصمت وعاودا الاستماع إلى هديج العجزة يتحدثون عن الساحرات والأرواح الشريرة، وإلى الهواء يصدر صريراً من الزجاج الإهليليجي، وإلى قرع الأجراس الحزين الرتيب.
بعد عدّة دقائق تحول الحديث المنقطع وابتدأ بهذه الطريقة:
- وقبل أن ينتهي يوم جميع القديسين ــ والذي يحتفل به في بلدي وبلدك ــ تستطيعين إعطائي تذكاراً دون أن تقيدي نفسك، ألا تفعلين هذا؟ قال ذلك مرسلاً نظرة لامعة كالبرق إلى ابنة عمّه، متوهجة بتفكير شيطاني.
- ولما لا؟ ــ قالتها رافعةَ يدها إلى كتفها الأيمن كما لو أنها تبحث عن شيء بين ثنايا درنها المخملي المطرز بالذّهب ــ وبعدها أضافت بتعبير بريء عن المشاعر: أتذكر الوشاح الأزرق الذي ارتديه يوم الصيد، والذي قلت لي أنه لشيء ما لا تدري عما يرمز في لونه أنه شعار روحك؟
- نعم.
- حسناً، لقد فقدّته، كنت أفكر أن أهديك إيّاه كتذكار.
- لقد فقدته! أين؟ سألها ألونسو ناهضاً من مقعده تنتابه مشاعر لا توصف من الخوف والأمل.
- لا أدري ربما في الجبل.
- في جبل الأرواح؟ همس ألونسو شاحباً ومرتداً إلى مقعده، في جبل الأرواح... من ثمّ تابع بصوت جاف باهت:
أنتِ تعرفين ــ وذلك لأنّك سمعته آلاف المرّات ــ بأنه يطلق علي في المدينة والقلعة لقب ملك الصيادين. لا أستطيع أن أختبر قواي كأجدادي في معركة، فنقلت إلى الصيد صورة الحرب وكل حيويّة شبابي وكل الحماسة الموروثة في بني جنسي. فالسجادة التي تدوسين عليها هي بقايا وحوش بريّة قتلتها بيدي، فأنا أعرف كلّ أوكارها وعاداتها، أتعارك معها بالنهار والليل، راكباً ومترجّلاً، فرادى و جماعات، ولا يوجد أحد يجرؤ على القول أنه رآني هارباً في أيّة مناسبة. لو كان يوماً آخر غير هذا لهرعت وراء ذلك الوشاح ولرجعت فرحاً كما لو أنّي في مهرجان، ولكن هذه الليلة....هذه الليلة... لماذا أكتمها! أنا خائف. أتسمعين؟ الأجراس تقرع والصلوات تصدح في كنيسة سان خوان ديل دورو، وأرواح الموتى ابتدأت ترفع جماجمها الصفراء من بين الشجيرات التي تغطّي قبورها. الأرواح والتي رؤيتها وحدها تجمد الدم في عروق أشد الفرسان ضراوة من الرعب، أو تشيب شعر رأسه، أو تجعله يهيم في عدوه الشديد مثل ورقة شجر يسحبها الهواء دون أن تدري إلى أين.
وفي أثناء حديث الشاب ارتسمت بسمة طفيفة غير مدركة على شفتي بياتريث. وبعد أن أنهى الشاب كلامه استطردت قائلة بنبرة لا مبالية، مقلبة النار في الموقد حيث تفرقع وتتحرك مطلقة شرراً بآلاف الألوان:
- آه! بأية حال! كم هو جنون الذهاب إلى جبل الأرواح الآن لأمر مثل هذا! وفي ليلة مظلمة مثل هذه، ليلة الموتى والطريق مليء بالذئاب!
قالت جملتها الأخيرة والتي صاغتها بطريقة خاصّة جعلت من الصّعب على ألونسو ألاّ يفهم سخريتها الاّذعة، والذي بدوره وثب واضعاً يده على جبهته كما لو أنه يريد أن يبعد الخوف الذي كان في رأسه وليس في قلبه، ثمّ قال بصوت حازم مباشرةً إلى الجميلة التي ما تزال تنحني نحو المدفأة مستمتعةً باشعال النار:
- وداعاً بياتريث.... إلى اللقاء.
- ألونسو! ألونسو! قالتها عائدة بسرعة، لكن عندما أرادت أو تظاهرت أنها تريد أن توقفه كان الشاب اختفى.
بعد دقائق قليلة سمعت الجميلة صوت جواد يبتعد عدوا،ً وبتاعبير كبرياءٍ ورضى متألق والتي لوّنت وجنتيها أعارت سمعها مصغيةً إلى ذلك الصوت الذي ضعف وبدأ يخفت حتى توارى في النهاية.
وفي تلك الأثناء كانت العجائز تتابع قصصها عن ظهور الأرواح، كما كان الهواء يطرق زجاج الشرفة والأجراس تقرع من بعيد.
انقضت ساعة واثنتان وثلاث، اقترب حلول منتصف الليل. عادت بياتريث إلى غرفتها، وألونسو لم يعد بعد، على الرغم من أنّ نصف ساعة كافية لإتمام مهمته.
لا بد أنه كان خائف! قالت بياتريث مغلقة كتاب الصلاة خاصتها متوجهةً إلى السرير بعيد محاولة لتلاوة بعد الصلوات التي أعدّتها الكنيسة خصيصاً في يوم الموتى لؤلئك اللذين ماتوا.
نامت بياتريث بعد أن أطفأت المصباح وأغلقت ستائر السرير المزدوجة المصنوعة من الحرير، نامت نوماً بأحلام مضطربة، متقلبة، مزعجة.
تدق الساعة الثانية عشرة في ساعة البوستيغو. سمعت بياتريث عبر أحلامها ذبذبات قرع أجراس بعيدة وحزينة، من ثمّ فتحت عينيها بنصف إغماضة، اعتقدت أنها سمعت صوتها من مكان بعيد، بعيد جدّاً، وبصوت مخنوق ملؤه المعاناة. كانت الرياح تأن عبر زجاح النافذة.
لا بد أنها الريح، قالتها واضعةً يدها على قلبها تنشد السكينة، لكن قلبها كان ينبض بشدةٍ أكثر مرة تلو الأخرى. كانت أبواب الغرفة المصنوعة من خشب اللاركس تصرصر مفاصلها بصرير حاد طويل مزعج. في البداية تلك الأبواب ومن ثمّ الأخرى فالأخرى، جميع الأبواب التي تؤدي إلى غرفتها كانت تصدر أصواتاً بالترتيب، هذه بضجيج صامت حاد، وتلك بنواح طويل مزعج.
ومن بعد ذلك صمت، صمت مليء بأصوات غريبة، صمت منتصف الليل، بخرير مياه رتيب بعيد، ونباح كلاب بعيدة ، وأصوات مختلطة، وكلمات غير مفهومة، أصداء خطوات تجيء وتروح، وحفيف ثياب تتحرك، تنهدات مختنقة، وتنفس مرهق بالكاد تشعر به، رعشات غير طوعية تعلن وجود شيء ما غير مرئي ومع ذلك فإنه يقترب بالظلمة.
أخرجت بياتريث بسكون وارتعاد رأسها خارج ستائر السرير واستمعت لبرهة. سمعت آلاف الأصوات المختلفة، وضعت يدها على جبهتها معاودة الاستماع، لكن لا شيء فقط الصمت. رأت ــ بأحداق تومض كما في حالات الانهيار العصبي ــ أطيافاً تتحرك في جميع الاتجاهات، وعندما ثبتت نظرها على نقطة محددة لم ترَ شيئاُ فقط الظلمة وظلال غير واضحة.
هاه! ــ قالت مميلة رأسها الجميل على الوسادة الحريرية الزرقاء ــ هل أنا خائفة كؤلئك الأناس المساكين، والذي ينبض قلبهم من الرعب تحت دروعهم عندما يسمعون أسطورة عن الأرواح؟
أغلقت عينيها محاولة النوم، لكن عبثاً كانت تحاول مجاهدةً نفسها. فجأة عاودت الجلوس، كانت أكثر شحوباً وقلقاً ورعباً. هذه المرة لم تكن وهماً، الستائر المصنوعة من القماش الثقيل للباب كانت تتحرك متباعدة وصوت بعض الخطوات صدرت من السجادة، كان صوت تلك الخطوات صامتاً، كما كان وقعها كصرير الخشب أو العظام، وكانت تقترب وتقترب تتحرك نحو كرسي الصلاة المتواجد على حافة سريرها. أطلقت بياتريث صرخة مدوية ودفنت نفسها تحت ملاءات السرير مخفضةً رأسها وكاتمة أنفاسها.
كان الهواء يضرب بقوة على زجاج الشرفة، ومياه النبع البعيد تسقط وتسقط محدثةً صوتاً أبدياً رتيباً، ونباح الكلاب ينتشر مع هبوب الريح، وكانت أجراس مدينة سوْريا القديمة والبعيدة تقرع بحزن لأرواح الموتى.
هكذا مرت ساعة، اثنتان، الليلة، قرن، وذلك لأن تلك الليلة بدت أبديةً لبياتريث. بزغ الفجر بالنهاية، مخرجاً بياتريث من خوفها، فتحت عينيها بنصف إغماض مع أول أشعة للنور. بعد ليلة مؤرقة ومرعبة، كم هو جميل الضياء الناصع الأبيض للنهار! سحبت الستائر الحريرية للسرير، وأطلقت بسمة على خوفها السابق، عندما فجأة اعتلاها برد كسا جسمها وبدت عيناها كأنها خرجت من محجرها، وغير شحوب قاتل لون وجنتها، ففوق كرسي الصلاة شاهدت وشاحها الأزرق الذي فقدته في الجبل ممزقاً ومخضباً بالدم، الوشاح الأزرق الذي ذهب ألونسو يبحث عنه.
عندما حضر خدمها ليخبروها بوفاة بكر كونت ألكودييل، حيث ظهرت صباحاً جثته بين الحشائش وقد التهمتها الذئاب، وجدوا بياتريث ميتةً ويداها الاثنتان مثبتتان بعارضة السرير المصنوعة من خشب الأبنوس، كانت عيناها جاحظتان وفمها شبه مفتوح، وشفتاها بيضاوان، مشدودة الأوصال، ميتة، ميتة من الرعب!
يقولون أنه بعد حدوث تلك الواقعة، روى في اليوم التالي وقبل أن يموت صياد تائه ما شاهد، كان قد مضى ليلة الموتى دون أن يستطيع الخروج من جبل الأرواح، روى أموراً مرعبة. من بين تلك الأمور أكد أنه رأى هياكل عظمية لفرسان الهيكل القدامى ونبلاء سوْريا المدفونة في الباحة الأمامية للمصلى تنهض مع قرع الأجراس محدثة جلبة مرعبة، والفرسان تمتطي هياكل الفرس تطارد كالوحوش البرية فتاة جميلة شاحبة ورثة الملابس، حيث كانت بأقدام مكشوفة مخضبة بالدم، مطلقة صرخة ملؤها الرعب تحوم حول قبر ألونسو.

ماريا


ماريــــّا
تأليف: مانويل تالنز
ترجمة: رامز الحداد

بعد أسابيع قليلة، كانت القضية قد أغلقت عند وصول رسالة من السفارة الكندية في مدريد، تخطر بشكل رسمي بأن تشريح الجثة الشرعي أثبت بأن " جون أوليسس ماكبِن" قد عانى من ورم دماغيّ ذي نوع إشعاعي خبيث، في النصف الأيمن من دماغه. جاء الإعلان متزامناً مع رسالة معنونةَ من مشفى فكتوريا الملكي، وفيها يصادق المسؤول الطبيب عن اكتشافه للورم قبل شهر- في أيلول من عام ألف وتسعمائة و اثنين وتسعين- عندما بدأ يشتكي من آلام بالرأس، لكنّه رفض أي نوع من العلاج، طبيَّ كان أم جراحيّ. إذ كانوا قد حاولوا إقناعه – تابع الخطاب- إلاّ أنّه اختفى عن الأنظار ولم يعرفوا عنه شيئاً حتّى ذلك الحين.
أما أنا فقد تعرّفت عليه بشكلٍ عابرٍ في يوم سبت من نهاية شهر تشرين الأول، عندما طُرق باب البيت، كان الوقت حينئذ الثالثة ظهراً، وكان الطرق بأطراف الأصابع قد أزعج قيلولتي التي كنت قد اتخذتُ الأريكة مكاناً لها. ذهبت لأفتح الباب محمّلاً بمشاعر الدهشة والانزعاج، فقد كانت تلال مارخانا منعزلة ونادراً ما كان يأتي أحد إليها، إلا زوار يوم الأحد العرَضيين الذين علِقوا بالجبال.
وجدت نفسي أمام رجل طويل جاف كإنجلوسكسوني فريد اعتاد أن يكون كذلك دون أن يفقد اتزانه. كان ذو ملامح حادّة وشعر ناصع البياض، ذو عيون رمادية وحواجب كثيفة. كان له مظهر أمير ويلز ولكن بهيأة أقل والتي أربكني هدوئها الأصيل. كان يرتدي ثياباً خريفية معتدلة، منتعلاً خفّاً مريحاً. كان يتّكئ مستنداً على عصاً ويلهث بسبب مشيه الطويل.
قال لي : عمتَ مساءً، اسمي "جون ماكبِن" وأنا كنَديٌ وقد كنت في هذا البيت قبل خمسين عاماً، بعيد الحرب. هل أستطيع الدخول من فضلك؟
كان يتحدّث القشتالية بلهجة إنجليزية خفيفة، لكن لفظه كان صحيحاً خالياً من أي تلعثم. ألهمتني ثقته ووجدت نفسي أتنحى جانباً، أما هو فمضى إلى الداخل.
دعوته للجلوس، وفي هذه الأثناء استعاد أنفاسه وذهبت أنا لأعدّ القهوة. شعرت بالفضول لمعرفة أسباب الاشتياق الذي أدّى إلى جعل هذا الرجل العجوز يعود بعد وقت طويل إلى مكان منعزل مثل هذا، ومع ذاك الفضول كان هنالك اهتمام لمعرفة بعض التفاصيل القديمة عن البيت الذي اشتريته في عام ألف وتسعمائة وسبعة وثمانين لكي أبتعد بأيام العطل عن ضجّة فالنسيا.
فأنا رجل كثير الانشغال، إذ أنّ عالم الإعلانات يتطلب الكثير من الاهتمام ويسبب الكثير من التوتر لدرجة أنّي أتوجه أيام الجمعة مساءً عبر الطريق السريع نحو جساريس متجنباً زحمة السير. لا يوجد لدي هنا حتى التلفاز، فقط الكتب، والموسيقى، والهواء النقي، ونار المدفئة وبعض الأحذية الرياضية الخاصّة بالجبال والمناسبة للسير عبر الجبال.
قلت له محاولاً التصرف بأدب" ما أجمل لهجتك يا سيّدي"، في الوقت الذي كنت أسكب فيه القهوة في فنجانين وضعت أحدهما على الكرسي أمامه. وبالكاد لاحظ قولي .
- كنت أدرّس اللغة الإسبانية، وقد تقاعدّت منذ زمن.
لقد كنت هنا إذن في الأربعينيّات....
- أجابني متلمّحاً جواره: البيت لم يكن هكذا، كان أكثر تواضعاً ولكن بنفس تقسيمه الحالي. لاحظت أنّك أدخلت عليه بذوق طابعاً عصرياً، محافِظاً على مظهره الأصلي. و من ثمّ سألني: ما اسمك؟.
قلت له اسمي، ومن ثمّ روى لي قصّته، فقد كان من أوتاوا
1 وأتى إلى إسبانيا في الحرب الأهلية مع كتيبة " ماكنزي بابنياو2" لينخرط بالقوات الجمهورية. إذ كان أحد الشباب الذين استجابوا من بين العالم للنداءات التي كانت شائعة حينها. وبعد انتهاء كلّ شيء بقي في الجبال مع مقاتلي ثوار " العيون الزرقاء" في تلّة لوس كوراس.
ثم علّق قائلاً: بالنسبة لي فقد قدّروني كثيراً، فقد كنت أعرف باسم خوان " الكندي"، لقد كانوا زملاءً رائعين، الشيء القليل الذي كنّا نملكه كان كلّ شيء بالنسبة لنا.
قلت له: لم أكن أعتقد أنّي سوف أتشرف بمعرفة أحد الثوار الحقيقيين.
ابتسم ثم قال:
كنّا ننزل من وقت إلى آخر إلى البلدة لكي نبحث عن الطعام، وكان هنالك نساء يخدمننا، لكن الحرس المدني كان قد ضيّق الحصار علينا وكان استمرارنا بالحياة يصعب مرّة تلو مرّة، فإن الفاشيين كانوا قد دبّروا مكيدة لنظرائهم عن طريق الثوار، إذ كانوا قد تغلغلوا فينا بشكل قد سبب لنا الضرر الكبير.
- وكيف انخرطّت بصفوف الثوار؟
بعد خسارة الحرب عزمت كالكثير على الهرب بقارب إلى أليكانته، لكنّ ذلك كان مستحيلاً فبكل بساطة لم يكن هنالك قوارب، وهكذا انتقلت إلى السرّية والتكم، ومن ثمّ توجّهت إلى الجبال. كنت قد أحضرت معي رفيقاً من سيغودا وكان اسمه فلوريان، كان شجاعاً جداً ، من كان يدري ماذا سيحصل معه.
- لقد كانت حياة قاسية أليس كذلك؟
كثيراً، ففي العام ألف وتسعمائة واثنين وأربعين وبعد نهاية العديد من أشهر التجوال مشرّداً مثل حشرة، أعسكر حيث أعسكر، أنام في النهار وأسير بالليل، بقي لدي القليل من الأمل في المستقبل. تخيّل أننا لم نجتز الأنهار عبر الجسور قط إلا عبر المياه، وذلك تحسباً للمدنين. وفي شتاء البرد القارص هنا، ماذا أقول عن ذلك! كنّا نضع مراهم تخفيف الألم لنتقي شر البرد ونشعر بالدفء. لقد كانت فظيعة، فظيعة.
كان حرف العلّة الياء قد لطّف قسوة الكلمات السابقة.
- جلست بصمت ثم قلت:
لقد قلت أنّك كنت في هذا البيت؟
نعم, كان ذلك في ربيع عام ألف وتسعمائة وثلاثة وأربعين، " العيون الزرقاء" رئيسنا بعثني مع شخص آخر لاستكشاف المنطقة ولكي نبحث عن نقطة جديدة نعسكر فيها، كنّا قد وصلنا هنا عندما كانت الشمس تشرف على الإشراق، كان اسم رفيقي أكيلِس. لم تنبح علينا الكلاب وهذه كانت إشارة جيدة، لأنّه وفي بعض البيوت كانت الكلاب قد درّبت لكي تميز رائحتنا ولا تتهيج، فكنا نعبق برائحة كريهة ناتجة عن عدم الاستحمام. الزوجان اللذان استقبلانا كان لديهم خوف من الانتقام، لكن الزوجة قالت أن باستطاعتنا تناول طبق دافئ- أمعن "جون ماكبِن" نظره إلى المكتب الذي على يميني وأشار إليه بإصبعه- قد جلست في تلك الزاوية ، كنت قد أتممت أربعاً وعشرين عاماً، وكنت قذراً بلحية عمرها عدّة أسابيع. إذاً، وفي هذه الأثناء أكيلِس وأنا تناولنا الحساء، من ثمّ فُتِح باب تلك الحجرة- أشار الآن نحو غرفة المكتب بإصبعه المرتعش- وظهرت ابنتهم، ثمرة زواجهم.
بدأت القصة تمتعني.
- وكيف كانت ؟
افترض أنّك تخيّلت بإحدى المرّات مريم العذراء عندما أتاها جبريل الملاك، لقد كانت هكذا، كانت لا تزال في سن المراهقة، كانت أكثر فتاةً رائعةٍ رأيتها على الإطلاق. سمعت اسمها، ماريّا. صرخت عليها والدتها بمزاج عكر إذ كانت قد أغلقت الغرفة على نفسها. لقد خافت بلا شك، كأننا فعلنا لها شيئاً، لأن الثوار الذين يسيرون عبر الجبال دون أنثى يعتبروا خطراً.
حاولت بشكل عقلاني إعادة بناء حالة الرعب التي تملكت الأبوان ودهشةِ الفتاة.
- وهل أطاعت هي؟
طبعاً- حرّك رأسه بشكل إيجابي- ماذا كانت ستفعل إن لم تطع؟. لقد رأيتها فقط لبضعة ثوانٍ، لكنها كانت كافية لتعدل ذلك اليوم. على الرغم من أن ذلك يبدو لا يصدق، فقد كان اليوم الأول في حياتي.
لاحظت أنّ حارس الجسر العجوز، وبعد الاعترافات الكثيرة قد انتهى من الاستذكار، وبعد فترة من الهدوء أخذ يتأمل الفراغ.
- وماذا حصل بعد ذلك؟ سألته بخبث خوفاً من أن يتركني في منتصف القصّة.
هبط من السحاب وقال:
بعد قليل خرجت لأبحث عن شيء من الحطب لكي يدرك الزوجان أننا كنّا أشخاصاً طيّبين. حملت بعضها على كتفي البرونزي إلى كهف الشياطين، وبهذه الأثناء سمعت صوت نباح أتبعه صوت إطلاق نار، فقد أُخِذَ الحرس المدني على حين غرّة، ردّ أكيلِس على إطلاق النار وفي أثناء المناوشات قُتِل.
بعد يومين عدّت بكثير من الحرص، ولم أجد أثراً للعائلة التي كانت هنا.
لقد كانت نجاتك أعجوبة.
أعجوبة لدرجة أشعرتني بالذنب، فنزلت به إلى المنحدرات ودفنته في آلتو غاسبر
1. وبعد عدّة أشهر كان بإمكاني الهرب من إسبانيا والتوجّه إلى البرتغال عبر جبال تراس أوس، والتي كنت سوف أرجع إلى كندا من هناك.
- هل كان هذا كل شيء؟
ابتسم دون رغبة وقال:
نعم، ابتداءً من هنا لم يحدث شيء ذو قيمة.
مضت عدّة دقائق صمت، تاركاً إيّاه يستعيد ذكرياته عندها اصطبغت أجفانه باللون الأحمر، وبالنهاية مع تلك الحماسة الباقية، أبدى وهم بعض من الأحداث التي بقيت، مثبتاً نظره ومطلقاً ما في داخله .
أتصدقني لو قلت لك أنه لم تمضِ أيّة ليلة منذ ذلك الحين ولم أحلم بتلك الفتاة.
لم يتحدث أكثر، ولاحظت عليه الإعياء.
-هل تريد أن تستريح؟
لقد قدّته إلى غرفة الزوّار وعدّت للاهتمام بأموري. وفي نهاية فترة صمت ظهر من جديد في الصّالة قال أنه يريد أن يتابع استكشاف المنطقة ويعاود خطواته مستعيداً ذكرياته. شكرني ألف مرّة لحسن ضيافتي، وودّعني، ثم شاهدّته يتحرّك بعيداً إلى جبل مرتفع.
عندما تمارس مهنة كالتي اخترتها، تنغمس يومياً بتمثيل مزيف للرغبات، الواحد يعتاد تجاهل الأمور البسيطة التي تنشأ دون نفاق عندما لا يكون هنالك شي للظفر به ولا يكون هنالك مستقبل. قد فكّرت كثيراً بتلك الوداعات، وأتعجب لماذا شوّهت إلى هذا الحد-لا أدري- لكن الذي أذكره هو نفس العادات الحقيقية، والآن أنا متأكد كلياً أنّ يديه الدافئتين كانت تريد أن تنقل صفاء المسافر المرهق الذي شاهد الميناء في أوديسيا طويلة، وفيها الحلم غير الواقعي الذي قاد لإبقاء الأحاسيس عن بعد دائماً مساوٍ لمسافة قاربه الشراعي.
مضت عدّة ساعات، كنت فيها قد احتسيت عدداً كبيراً من فناجين القهوة عندما قاطع صوت زقزقة العصافير الصاخبة صدى إطلاق عيارٍ ناري، حيث نزل دويّه عبر آلتو غاسبر،لم أعر ذلك أي اهتمام فالصيد يكثر بالخريف. قبل أن أتابع الرواية التي أدهشتني ذهبت لإلقاء نظرة خاطفة عبر الشرفة، حيث كانت الشمس تستتر في انثناءات السماء، كل شيء كان أحمر كأفق الغروب. كان الرماد يعبق المدفأة بصوت فرقعته، ومن وراء ظهري كان جهاز الموسيقى يرسل همس صوت الفريد لفيرتز فندرلي يغنّي لحن اللّنسكي.
فوق كومودينو غرفة نوم الزوّار وجدّت في تلك الليلة صورة قديمة للثوار يتقدّمهم الكندي، وكان معها شيكاً موقعاً من الأميركان إكسبريس، وملاحظة مكتوبة بقلم ريشة، وفيها كان جون ماكبِن يطلب السماح للإزعاج الذي سببه لي
.

المرأة الطويلة


المرأة الطويلة
تأليف: بيدرو أنتونيو دى ألاركون
ترجمة: رامز الحداد

I

ما الذي نعرفه أصدقائي ما الذي نعرفه! قالها غابرييل، المهندس المميز في الجبال، الجالس أسفل شجرة الصنوبر، قريباً من النبع، في قمة غواداراما، الواقعة في نصف طريق إسكوريال، على الحدود الفاصلة بين مقاطعتي مدريد وسيغوبيا، المشهد والنبع والشجرة أعرفها وأعرف منظرها، لكنّي نسيت اسمها.
دعونا نجلس، تابع غابرييل، كما هو مكتوب في برنامجنا الراحة والاستجمام في هذا الموقع اللطيف والكلاسيكي، المشهور بميزات ماء نبعه الهضمية، وبحملانه الكثيرة التي أكل منها معلمونا المنوّرون، السيد ميغيل بوتس، السيد ماكسيمو لاغونا، السيد أوغستن باسكوال وعظماء آخرون. اجلسوا ودعوني أخبركم قصة غريبة ورائعة للتأكيد على أطروحتي، والتي سوف تقولون عني ظلامي لأجلها، فما زال يحدث على الكرة الأرضية، أمور خارقة، أمور لا تلائم مساحة المنطق، ولا العلم ولا الفلسفة، كما في هاملت، كلمات، كلمات، كلمات اليوم أفهمها أو لا أفهمها.
كان غابرييل يعطي هذه التلميحات الحيوية إلى خمسة أشخاص مختلفين بالأعمار، لكن ليس منهم أحد شاب، واحد منهم كان طاعناً في السن، ثلاثة منهم كانوا مثل غابرييل مهندسين في الجبال، الرابع رسّام والخامس كان أديباً من ناحية أو أخرى. جميعهم كانوا متفقين مع المتكلم، الذي كان أصغرهم. وعلى حمير مستأجرة من المكان الملكي للقديس لورينثو كنا نجمع أعشاباً من هذه الأشجار الصنوبرية الجميلة للبيغيرينوس، نصطاد الفراش في الشبكات، نصطاد الخنافس النادرة من تحت قشر الصنوبر المتعفنة، ونأكل من سلة الطعام التي دفعنا بحصص ثمنها.
حدثت القصة في عام ألف وثمانمئة وخمسة وسبعين، إذ كان صيفاً لاهباً، لا أدري إن كان يوم القديس سانتياغو أو القديس لويس، أميل إلى اعتقادي بأنه يوم القديس لويس حيث كنا قد استمتعنا ببرودة تحت الصيف اللاهب، فالقلب والمعدة والعقل كانت تعمل هنا أفضل من العالم الاجتماعي والحياة العادية.
جلس الستة أصدقاء، حينها أكمل غابرييل قصته بالشكل الآتي:
أعتقد أنكم لن تتهموني بكوني خيالياً، لحسن الحظ أو لسوءه أنا كذلك، واسمحوا لي لأقول ذلك، أنا رجل معاصر لا أملك خرافات، وأنا إيجابي كأكثر الناس، مع أني أضم وسط أكثر الحقائق الإيجابية جميع القدرات الغامضة ومشاعر الروح. حسناً، في ما يتعلق بالخوارق أو الأمور الخارجة عن الطبيعة أو الظواهر استمعوا إلى ما شاهدت وسمعت، على الرغم من أني لست البطل المطلق لهذه القصة الغريبة التي سأرويها لكم، ومن ثم قولوا لي على التوالي أي تفسير أرضي أو فيزيائي أو طبيعي أو كما تريدون أن تسموه، تستطيعون إعطائي إياه في أي حادثة رائعة. القضية كانت كالآتي لكن انتظر: اسكب لي بعضاً من هذه القطرات من الزجاجة التي لا بد أنها بردت الآن.

II

حسناً، سادتي، لا أدري إذا كنتم قد سمعتم عن مهندس طرق يدعى تيليسفورو اكس والذي مات في عام ألف وثمانمائة وستين.
- أنا لم أسمع.
- أنا سمعت.
- وأنا أيضاً سمعت، إنه فتىً أندلسي،ذو شارب أسود، حيث كان سيتزوج ابنة ماركيز مدينة موريدا، والذي قد مات بمرض اليرقان.
- هو ذاته - تابع غابرييل - حسناً، جيد، صديقي تيليسفورو قبل وفاته بنصف عام كان لا يزال شاباً متألقاً، كما يقولون هذه الأيام كان جميلاً، قوياً، حيوياً، وقد تألق في حصوله على المرتبة الأولى في مدرسة الطرق. كما حصل على التميز في التدرب على مهنته على بعض الأعمال الملحوظة، والذي كانت الكثير من الشركات تتنافس للحصول على خدماته، والكثير من النساء والفتيات والأرامل يحببن الزواج به، لكن تيليسفورو كان مخلصاً في حبه لخواكينا موريدا.
- سيد غابرييل بالترتيب لو سمحت.
- حسناً، حسناً سوف أرويها بالترتيب فلا قصتي ولا حديثي تحمل في طياتها شيئاً من المزاح. خوان اسكب لي نصف كأس آخر... جيد جداً هذا النبيذ! حسناً، انتبهوا وضعوا وجوهاً جدية فالآن سأبدأ بالرواية. حدث وكما تعرفون أن خواكينا ماتت فجأة في حمامات القديس آغيدا في نهاية عام ألف وثمانمائة وتسعة وخمسين. لقد كنت في باو عندما تلقيت هذا الخبر الحزين والذي أثر فيّ كثيراً بسبب العلاقة التي تربطني بتيليسفورو. لقد تحدثت معها مرة واحدة فقط، في منزل عمتها زوجة الجنرال لوبيث، وقد جزمت قطعاً أن امتقاع لونها إلى الأزرق كان عرضاً لصحة سيئة، لكن، مهما يكن، كانت فتاة ذات أخلاق مميزة وجمال وكانت الابنة الوحيدة التي لديها لقب، لقب حمل في طياته آلاف المعاني، لذلك قد شعرت أن صديقي الرياضي سوف يحزن كثيراً. وفيما بعد حالما وصلت إلى مدريد بعد خمسة عشر أو عشرين يوماً على وفاتها ذهبت لرؤيته في الصباح الباكر حيث كان يعيش في غرفة صغيرة أنيقة في شارع لوبو قريباُ من كنيسة القديس خورونيمو.
كان الشاب المهندس حزيناً جداً على الرغم من أن السكينة قد طغت على حزنه. لقد كان في عمله، حتى في هذا الوقت، يعمل هو ومساعده على بعض مخططات سكة الحديد. كان يرتدي ملابس الحداد. حيّاني بعناق طويل وحميم، ولم يأتي بشيء حتى التنهد. من ثمّ أعطى بعض التعليمات لمساعده عن العمل الذي بيده، وبعد ذلك اقتادني إلى مكتبه الشخصي في نهاية منزله. وبينما نحن في الطريق قال لي بنبرة حزينة دون أن ينظر إلي:
أنا سعيد جداً لقدومك، الكثير من المرّات أجد نفسي متمنيةً وجودك معي، حدث معي أمر عجيب، وحده صديق مثلك يستطيع سماع هذا الحديث دون أن يعتقد بأنّي مجنون أو شيء من هذا القبيل، أريد رأياً صافياً ولطيفاً كالعلم ذاته. "اجلس" تابع حين بلغنا مكتبه، ولا تتوهم بأنّي سوف أحزنك بوصف ما أعانيه من حزن، حزن سوف يبقي في داخلي ما حييت، ولماذا أقول لك عنه؟ تستطيع أن تتخيله بنفسك بقليل ما تعرف من مصاعب، ولأريحك لا أريد أن أحدثك عنه لا الآن ولا لاحقاً ولا أبداً. الذي أريد أن أحدثك عنه، بالتأني الضروري، يعود إلى بداية الأمر، فهو حدث رهيب وغامض، والذي كان بشير بشرني بكارثتي، ووضعني في جو مخيف.
تابع، قلتها وأنا جالس، والحقيقة أني ندمت دخولي البيت حالما شاهدت التعابير الخسيسة على وجه صديقي.
اسمع إذاً، قالها وهو يمسح العرق عند وجنته.

III

لا أدري إن كانت بسبب قدر وموروث من الخيالات، أو لسماعي لقصة أو شيء آخر الذي يجعل الأطفال ترتعب بسرعة. لكن الحقيقة أنه منذ كنت صبياً لا شيء سبب لي الرعب والخوف أكثر من امرأة وحيدة في الشارع، في ساعة متأخرة من الليل. الأثر هو نفسه في داخلي سواء صادفتها أو ببساطة ظهرت صورتها في عقلي. تستطيع أن تشهد اني لست بجبان، فقد قاتلت مرة في مبارزة، وعندما أضطر إلى ذلك، مثل أي رجل آخر. بعيد ما غادرت كلية الهندسة، زملائي في العمل تمردوا فقاتلتهم بالعصي والمسدسات إلى أن جعلتهم يمتثلوا لي. كل حياتي في خاين، وفي مدريد، وفي أي مكان آخر، كنت أمشي في الشوارع في جميع الأوقات، وحدي وبدون سلاح، أصادف الكثير من الأشخاص المشبوهين، اللصوص، والشحاذين الحقراء يجب أن يتنحوا عن طريقي أو أدوسهم. لكن إذا تحول هذا الشخص لامرأة وحيدة، واقفة أو سائرة، وأنا أيضاً كنت وحيداً دون أن يكون هنالك أحد في الطريق أو على مد البصر. (اضحك إذا أردت لكن صدقني) سأمتلئ رعباً وسيراودني رعب غامض، سوف أفكر بكوني في عالم آخر، أفكر بالوجود الخيالي، وعن كل قصص الخرافات التي سوف تجعلني أضحك في ظروف أخرى، سوف أسرع في خطواتي، واستدير، ولن أخرج من رعبي إلا إذا رجعت آمناً إلى بيتي.
حينها سوف أقع من الضحك على خوفي المجنون، وعزائي الوحيد أنه لم يكن هنالك أحد، عندها سوف أذكر نفسي دون عاطفة أني لا أؤمن بالعفاريت، ولا الساحرات، ولا الأشباح، وأني لا أملك أي سبب ليجعلني أخاف من تلك المرأة القذرة التي دفعها الفقر للخروج من منزلها عند تلك الساعة، أو حدوث جريمة، أو حادث والتي إليها سوف أعرض عليها المساعدة إذا احتاجت أو أعطيها الصدقات. وعلى الرغم من ذلك، فإن ذلك المشهد التافه سوف يتكرر إذا حدث مثل ذلك الحدث، وتذكر أن عمري فيها كان أربعة وعشرين عاماً وقد شهدت الكثير من المغامرات ليلاً، ولازلت لا أملك أدنى صعوبة في أي ناحية مع امرأة وحيدة في الشارع في منتصف الليل. ولا شيء من الذي قلته لك له أي أهمية، حالما تتركني المخاوف اللاعقلية عندما أبلغ المنزل، أو أرى أي أحد في الشارع، ونادراً ما أتذكرها بعد ذلك، تماماً مثل من يذكر غلطة سخيفة ليس لديها أي عواقب.
كانت الأمور تحدث كما هي عندما وتقريباً قبل ثلاثة أعوام، للأسف، عندي سبب جيد لحفظ التاريخ، ليلة الخامس عشر و السادس عشر من تشرين الثاني من عام ألف وثمانمائة وسبعة وخمسين، كنت قادماً للبيت على الساعة الثالثة صباحاً. وكما تذكر، كنت أعيش في ذلك البيت الصغير في شارع خاردينس قرب شارع مونتيرا، كنت قد أتيت في هذه الساعة المتأخرة، إذ كان هواء لاذع بارد يهب حينها من بيت قمار، أقول لك هذا وأنت تعلم أنّي لست بمقامر. ذهبت إلى ذلك المكان مخدوعاً بصديق مزعوم. لكن الحقيقة كانت وأنه عندما بدأ الناس يقومون بزيارات عند منتصف الليل قادمين من حفلة أو مسرح، يبدأ اللعب يأخذ مجده، ويبدأ الأشخاص برؤية وميض الذهب الوفير، وتوضع الأوراق البنكية والمكتوبة باليد. شيئاً فشيئاً انجرفت بالعاطفة المحمومة والمغرية ففقدّت كل الأموال التي أملكها، حتى أنّي خرجت مديوناً وكتبت صكّاً لهم. بعد لحظات دمرت نفسي كلياً، لكن مع الميراث الذي أتاني بعد ذلك، ومع عملي الجيد الذي أملكه، كان وضعي حرجاً ومؤلماً كثيراً.
كنت عائداً إلى المنزل في وقت متأخر من الليل متخدراً من البرد، جائعاً، خجلاً من نفسي، وقرف إلى أبعد الحدود. أفكر في والدي المريض أكثر من نفسي، يجب أن أكتب له من أجل النقود، وهذا سوف يكون مفاجئاً له بالقدر الذي سوف يحزنه، بما أنه يعلم أني في وضع جيد. قبيل أن أصل شارعي، عند تقاطع شارع بيليغرو، وبينما كنت أسير أمام بناء حديث الإنشاء، لاحظت شيئاً في مدخل المبنى، كانت امرأة طويلة وعريضة، تقف جامدة دون مشاعر كأنها صنعت من خشب.
بدت كأنها في الستين من عمرها، عيناها الوحشية والحقودة، المظللة برموشها، كانت مثبتةً نحوي كخنجرين. فمها منزوع الأسنان اصطنع كشرة نحوي كان يقصد بها بسمة.
الرعب الكبير أو الهذيان من الخوف الذي غلبني لوهلة أعطاني بطريقة ما إدراك حاد للحقيقة، وعليه أستطيع أن أميّز بنظرة التفاصيل الدقيقة لثوبها ووجهها، في الثانيتين اللتين استغرقتاني للمرور بذلك المشهد الكريه. دعني أرى إن أستطيع وضع انطباعاتي معاً في الطريقة أو الوضعية التي تلقيتها بها، بالطريقة التي كانت قد نقشت بحيث لا تمّحي من عقلي، تحت ضياء مصباح الشارع الذي لمع متوهجاً فوق المشهد الشبحي.
لكني أثير نفسي كثيراً، على الرغم من وجود سبب لذلك كما سترى لاحقاً. ولا تهتم لحالتي العقلية، فما زلت غير مجنون.
كان أول شيء أدهشني في هذه المرأة هو طولها الفارع وعرض عظم كتفيها الكبير. وأيضاً استدارة عينيها الثابتتين اللتين تبدوان كعيني البومة، وضخامة حجم أنفها البارز، وكبر حجم فمها الكهفي، وأخيراً ملبسها مثل فتاة شابة من الابابيس ، والمنديل الحديث الصغير الذي ارتدته على رأسها، وبحشمة متواضعة كانت قد غطت منتصف خصرها.
لا شيء قد يبدو أكثر سخفاً وكراهية، أكثر إثارة للضحك وسخرية من تلك المروحة في تلك اليدين الضخمة. لقد بدت كأنها صولجان في يدي عملاق عظمي عجوز شائن. وكأثر آخر مشابه كان ناتج عن المنديل الفضي المبهرج والذي يزين وجهها على جانب أنفها المسيّل المعقوف الذكري، للحظة ملت للاعتقاد ( أو أني رغبت بشدة في الاعتقاد ) بأنها كانت رجلاً متنكراً. لكن نظرتها التهكمية وبسمتها القاسية كانتا ناتجتان عن عفريتة، عن ساحرة، عن مشعوذة، عن ... لا أدري عن ماذا! عن شيء يبرر الكره والخوف اللذان سببتهما طوال حياتي لنساء يمشين وحدهن بالليل في الشارع. يستطيع أحدهم أن يقول أني كنت مبشراً منذ ولادتي بهذا اللقاء، يستطيع أحدهم أن يقول أن خوفي منها غريزياً، تماماً كأي كائن حي يخاف ويتنبأ، يحس ويدرك، إنها عدو طبيعي قبل أن أضر منها، قبل حتى أن أراها، فقط من سماعي لوطء أقدامها.
لم أولّ راكضاً عندما شاهدت لغز حياتي، كبحت من دوافعي لذلك، والتي هي أقل من أن تكون للخجل والكبرياء الرجولي من أن يكشف خوفي الشديد لها من أكون، وأن يعطيها أجنحة للحاق بي، أو لمهاجمتي، أو... لا أدري لماذا! الرعب الذي يحلم بالخطر ليس له شكل أو اسم محددين.
كان بيتي يقع في النهاية المقابلة للشارع الطويل الضيق، والذي كنت فيه وحدي، وحدي كلياً مع ذلك الشبح الغامض الذي اعتقدت أنه قادر على إبادتي بكلمة. كيف لي أن أذهب للبيت؟ آه، كم نظرت بقلق تجاه ذلك الشارع البعيد، شارع مونتيرا، الواسع والمضاء، والذي يتواجد فيه رجال الشرطة على مدار الساعة.
استطعت بالنهاية أن أتفوق على ضعفي، وأن أخفي وأخبئ ذلك الخوف البائس، وأن لا أسارع خطواتي، لكن أبقيها على التقدم البطيء، حتى على حساب السنين والصحة والعمر، وبهذه الطريقة أصبح أقرب إلى منزلي، أبذل قصارى جهدي كي لا أقع مغشياً علي على الأرض قبل أن أصل المنزل.
واحد من أمرين - فكرت بسرعة الضوء - إما أن يكون رعبي له أساس أو أنه جنون، إذا كان له أساس فإن هذه المرأة سوف تبدأ باللحاق بي، وسوف تدركني ولن يكون لي خلاص ساعتها على الأرض. وإذا كان جنوناً، فإنه رعب أخافني كأي شيء آخر، فسوف أقنع نفسي بها في الوقت الحاضر، ولأي أمر سوف يحدث هنا بعدئذ، برؤيتي لهذه المرأة المسكينة واقفة على باب منزلها لتحمي نفسها من البرد أو لتنتظر حتى يفتح الباب، وعليه أستطيع الذهاب إلى منزلي بسكينة، ويجب أن أشفي نفسي من الوهم الذي سبب لي هذا الإحراج.
بتكويني هذا الاستنتاج، اصطنعت جهداً استثنائياً وأدرت رأسي.
آه، غابرييل، غابرييل، كم كانت مرعبه! المرأة الطويلة لحقت بي بخطوات صامتة، كانت خلقي تماماً لمستني تقريباً بمروحتها، وشبه أمالت برأسها على كتفي.
لماذا كانت تفعل ذلك؟ هل كانت لصّة؟ هل كانت بالفعل رجلاً منتكراً؟ هل كانت عجوزاً عفريتة خبيثة رأت بأنَي كنت خائفاً منها؟ هل كانت شبح استعاد رؤى الماضي بسبب خوفي؟ هل كانت خبر سخرية للنفس البشرية؟
لا أستطيع أن أخبرك بكل ما فكرت فيه بتلك اللحظة، لقد أطلقت صرخة وانطلقت مثل طفل في الرابعة من عمره يعتقد أنه رأى غولاً ولم أتوقف حتى وصلت إلى شارع مونتيرا.
ومرّة واحدة تلاشى خوفي كالسحر، وهذا على الرغم من أن شارع مونتيرا كان منعزلاً من ثمّ أدرت رأسي لأنظر إلى شارع خاردينس، استطعت رؤية طوله كاملاً، كان مضاءً كفاية بالنسبة لي لأرى المرأة الطويلة إذا كانت قد انسحبت في أي اتجاه، لكن لم أستطع رؤيتها واقفة، ماشية، أو في أي مكان! ومع ذلك كنت حريصاً على أن لا أعود من ذلك الشارع مرّة أخرى.
تلك الخسيسة - قلت لنفسي- قد انسلت إلى باب منزل آخر لكنها لا تستطيع الحراك دون أن أراها.
بعد ذلك رأيت حارس شارع كاباييرو دى غراثيا قادماً، عندها صرخت دون أن أتزحزح من مكاني، قلت لهم أن هنالك رجلاً متنكراً بزي امرأة في شارع خاردينيس. أشرت له أن يذهب عبر شارع بيليغرو و شارع أدوانا، بينما أبقى أنا بمكاني، وبهذه الطريقة لن يهرب منّا الرفيق الذي كان على الأغلب لصاً أو قاتلاً، وبالفعل قام الحارس بفعل ما قلت، فقد ذهب من جهة شارع أدوانا، وعندما شاهدت مصباحه قادماً عبر شارع خاردينس مضيت أنا أيضاً عازماً. التقينا في منتصف الطريق دون أن نعثر على روح، على الرغم من أننا تفحصنا باباً تلو الآخر.
- قال الحارس: يبدو أنه دخل إلى منزل ما.
- يبدو ذلك، أجبته فاتحاً بابي لهدف ثابت وهو الانتقال إلى شارع آخر غداً.
بعد لحظات قليلة كنت في غرفتي، وكنت دائماً أغلق مزلاج الباب كي لا أزعج حارسي الطيب خوسيه. والذي كان ينتظرني تلك الليلة. ولسوء حظي فإن ليلة الخامس عشر و السادس عشر من تشرين الثاني لم تنتهي بعد.
- سألته في دهشة: ما الذي حدث ؟
- الرائد فالكون كان هنا - أجابني بإثارة واضحة - ينتظرك من الساعة الحادية عشرة حتى الثانية والنصف، وأخبرني أنك إذا عدّت إلى البيت لتنام يفضّل ألا تخلع ملابسك لأنه سوف يعاود القدوم فجراً.
كانت الكلمات قد تركتني مرتعشاً بالأسى والحيطة كما لو أنها نبأتني بموتي. عرفت أن والدي الحبيب، في بيته في خيان، كان يعاني من هجمات متكررة وخطرة من مرضه العضال. وكنت قد كتبت لأخي بأنه إذا حصل انتهاء خطير مفاجئ للمرض، فينبغوا أن يراسلوا الرائد فالكون، والذي بدوره سوف يعلمني بطريقة ملائمة.فلذلك لم يكن لدي أدنى شك بأن والدي قد مات.
جلست على الكرسي انتظر بزوغ الفجر وقدوم صديقي، ومعهما أنتظر خبر سوء حظي الكبير. الله وحده يعلم كم عانيت في هاتين الساعتين القاسيتين من الانتظار. وفي الأثناء، تجمعت في عقلي ثلاثة أفكار منفصلة، على الرغم من أنها تبدو غير متشابهة، إلا أنها تتطلب آلاماً لتبقى في مجموعة مفزعة. فقد كانت الأفكار هي: خسارتي في اللعب، ولقائي المرأة الطويلة، وموت أبي العزيز.
وبتمام الساعة السادسة قدم الرائد فالكون إلى غرفتي، ونظر أليّ بصمت، فدفعت نفسي بين يديه، انتحب بألم، فقال لي وهو يلاطفني " نعم يا صديقي، ابك، ابك".
IV

صديقي تيليسفورو- تابع غابرييل بعدما شرب كأساً آخر من النبيذ - أيضاً استراح لحظة عندما بلغ هذه النقطة ثم تابع على الشكل الآتي:
إذا كانت قصتي قد انتهت على هذا الشكل فإنك لن تجد فيها أي شيء خارج عن الطبيعة أو خارق، فسوف تقول لي كما قال لي الرجل ذو الأحكام الجيدة في ذلك الوقت، أنّ كل رجل لديه خيالات حيوية هو موضوع لحافز من الخوف أو غيره، وأن خوفي جاء من حماقة من امرأة وحيدة في الشارع، وأن هذا المخلوق العجوز في شارع خاردينس كان فقط مجرد متشردة ضالة كانت تود أن تتسول منّي عندما صرخت وركضت. من جهتي، حاولت أن أصدق ذلك، حتى أنّي هممت بتصديقها بعد عدّة أشهر. ومع ذلك سوف أعطي سنين عمري كي لا أقابلها مرّة أخرى. لكن اليوم سوف أعطي كل قطرة من دمي لمقابلتها مرّة أخرى.
- لماذا؟
- لأقتلها على الفور.
- لست أفهمك.
سوف تفهمني عندما أخبرك بأنني التقيت بها مرة أخرى قبل ثلاثة أسابيع، قبيل ساعات من معرفتي للخبر المرعب لوفاة خواكينا المسكينة.
- احك لي...احك لي.
هنالك القليل لأحكيه، لقد كانت الساعة الخامسة فجراً ولم تكن الدنيا قد انبرت بأكملها، على الرغم من أن الفجر كان مرئياً من الشارع نحو الغرب. كانت مصابيح الشارع قد أزيلت لتوها والحارس قد ذهب. وبينما كنت أسير عبر شارع براد لأذهب إلى شارع لوبو، عبرت المرأة المروعة من أمامي دون أن تنظر إلي وأعتقد أنها لم ترني.
كانت ترتدي الثياب ذاتها وتحمل المروحة عينها كما لو كانت قبل ثلاث سنوات. خوفي وحذري كانا أعظم من أي وقت. عدوت بسرعة عبر شارع بارد حينما رأيتها على الرغم من أني لم أبعد عيني عنها، لأضمن أنها لم تنظر خلفها، وعندما بلغت الجهة الأخرى من شارع لوبو كنت ألهث كأني أسبح في تيار عنيف. بعدها بدأت بسرعة جديدة باتجاه منزلي. تمتلئ نفسي بالسرور عوضاً عن الخوف، لاعتقادي أن الساحرة البغيضة قد قهرت وجزت من قوتها، من الحقيقة أني مررت بجانبها ولم ترن.
وفجأة، وعندما اقتربت من منزلي غمرني اندفاع سريع من الخوف،كما لو أن العفريتة العجوز قد رأتني وتعرفت علي، لكنها زعمت أنها لم تتعرف علي لكي تدخلني إلى شارع لوبو،حيث كان شبه مظلم، وحيث تستطيع مهاجمتي بأمان، وأنها تريد اللحاق بي، وبالفعل كانت بجانبي.
حينها نظرت حولي، وكانت هناك تكاد تلمسني بملابسها، تحدجني بعينيها الصغيرتين تستعرض الكهف المظلم لفمها، تهوي على نفسها بطريقة ساخرة كما لو أنها تسخر من خوفي الطفولي.
انتقلت من الخوف إلى الغضب الشديد، إلى الغيظ المتوحش البائس. اندفعت إلى المخلوقة الضخمة وقذفتها إلى الحائط واضعاً يدي على حنجرتها،تحسست وجهها وصدرها والخصل الشاردة من شعرها الرمادي إلى أن اقتنعت كلياً أنها إنسانة وامرأة.
حينها أطلقت صراخاً كان أجشاً ولاذعاً في نفس الوقت. بدا مزيفاً وبدت لي كأنها صرخة نفاق تعبر عن الرعب الذي لم تشعر به بالفعل. مباشرة بعد ذلك قالت، تفعل كأنها يبكي، لكنها لا تبكي، ناظرة إلي بعينيها الضبعيتين:
- لماذا اصطنعت مشادة معي؟
هذه الملاحظة زادت من خوفي وحففت من غضبي.
- إذاً أنت تذكرين – صرخت - أنك رأيتني بمكان آخر.
- ينبغي أن أقول ذلك عزيزي – أجابت بسخرية – ليلة القديس ايخينه في شارع خاردينيس، قبل ثلاثة أعوام.
شعرت بالبرد داخل أوصالي.
سألتها – دون أن أدعها:
- لكن من أنت؟ لماذا تلحقين بي؟ ماذا بيني وبينك؟
أجابتني بشزرة شيطانية:
- أنا امرأة ضعيفة مسكينة، أنت تكرهني وتخافني دون أي سبب، إذاً لا تكرهني ولا تخف مني، قل لي سيدي العزيز لماذا كنت خائفاً مني المرة الأولى التي شاهدتني فيها؟
- لأني أقرفك منذ ولادتي، لأنك الروح الشيطانية لحياتي.
- يبدو أنك تعرفني منذ أمد بعيد، حسناً، انظر بني، وأنا أيضاً أعرفك.
- تعرفيني؟ منذ متى؟
- منذ قبل أن تولد، وعندما رأيتك تمر بجانبي منذ ثلاثة سنوات قلت هذا هو.
- لكن ما أنا بالنسبة لك؟ وما أنت بالنسبة لي؟
- الشيطان، أجابت العفريتة باصقة في وجهي، محررة نفسها من قبضتي، راكضة مبتعدة برشاقة مدهشة.
رفعت تنورتها برشاقة مدهشة أعلى من ركبتها ولم تصدر قدماها أي ضجيج خفيف وهي تلامس الأرض.
كان من الجنون أن أحاول اللحاق بها، من الجنون أن أحاول الإمساك بها، بالإضافة أن الناس بدأت بالمرور بالقرب من كنيسة القديس خورنيمو وفي شارع برادو أيضاً. لقد كان النهار قد حل، والمرأة الطويلة تابعت عدوها أو طيرانها إلى شارع أوبرتاس الذي كان مضاءً من الشمس وهناك قد توقفت لتنظر إلي، لقد لوحت إلي بمروحتها المعلقة مرة أو مرتين مهددة، و من ثم اختفت وراء زاوية.
انتظر قليلاً يا غابرييل، لا تطلق أحكاماً على هذه القضية التي تتلاعب بروحي وحياتي، اسمعني دقيقتين أخرتين.
عندما دخلت المنزل تلاقيت مع الرائد فالكون والذي جاء ليخبرني أن خواكينا، خطيبتي، كل آمالي وسعادتي وفرحي على الأرض قد ماتت بالأمس في منطقة القديسة أغيدا. الأب السيئ الحظ كان قد راسل فالكون ليخبرني، أنا الذي كان يجب أن أتنبأ بذلك قبل ساعة من الآن، عندما قابلت الروح الشيطانية لحياتي!.
أتفهم الآن لأنه يجب أن أقتل عدوة سعادتي، العفريتة الخسيسة، التي تعيش ساخرة من قدري؟
لكن لماذا أقول أقتل؟ هل هي امرأة؟ هل هي إنسانة؟ لماذا لدي شعور مسبق بوجودها منذ ولادتي؟ لماذا تعرفت علي عندما شاهدتني أول مرة؟ لماذا لا أراها إلا عندما تحل كارثة بي؟ هل هي الشيطان؟ هل هي الموت؟ هل هي الحياة؟ هل هي المسيح؟ من هي؟ من هي؟

V

سوف أوفر عليكم أصدقائي الأعزاء- تابع غابرييل- الجدل والملاحظات التي استعملتها لأرى إن كنت أستطيع تهدئة تيليسفورو، لأنها متشابهة، تماماً متشابهة، والتي أنتم أنفسكم تجهزونها لتثبتوا أنه لا شيء خارق أو خارج عن القدرة البشرية في قصتي. وسوف تتمادون وتقولون أن صديقي كان نصف مجنون، وكان دائماً كذلك، أو على الأقل كان يعاني من مرض أخلاقي الذي يطلق عليه البعض "فوق الرعب" والبعض "جنون العواطف"، وحتى الموافقة على ما رويت عن المرأة الطويلة، يجب أن يعزى إلى المصادقة بالتواريخ والأحداث، ونهايةً، العجوز المسكينة قد تكون الأخرى مجنونة، أو لصة، أو متسولة، أو قوادة كما قال بطل القصة لنفسه في لحظة صفاء.
افتراض ملائم جداً – وضح زملاء غابرييل- وهذا الذي كنا في صدد قوله.

حسناً، استمعوا عدة دقائق أخرى، وسوف ترون أني كنت مخطئاً حينها، تماماً كما أنتم مخطئون الآن. الشخص الوحيد الذي لم يخطئ كان تيليسفورو. إن من الأفضل التفوه بكلمة "جنون" بدلاً من البحث عن تفسيرات لأمور تحدث على الأرض.
- تحدث، تحدث...
- سوف أتحدث، وهذه المرة بما أنها الأخيرة سوف أصل موضوع القصة دون أن أشرب كأساً من النبيذ.
بعد عدة أيام من هذا الحديث مع تيليسفورو أرسلت إلى مقاطعة ألياثيتي بحكم موقعي كمهندس جبال، لم تمض أسابيع كثيرة حتى عرفت من مقاول في الأعمال العامة أن صديقي التعيس أصيب بنوع رهيب من اليرقان، حوله كلياً إلى اللون الأخضر، مستلقياً على كرسي خفيض دون أن يعمل أو يرغب في رؤية أحد، ينتحب ليلاً نهاراً بغمّ وحزن مؤلم. لقد أعطى الطبيب آمالاً لشفائه. هذا الذي جعلني أدرك لماذا لم يجب على رسائلي، مما اضطرني للجوء إلى الرائد فالكون كمصدر للمعلومات عنه، ومن حين إلى آخر كانت التقارير تصبح أكثر كآبة.
بعد غياب دام خمسة أشهر عدت إلى مدريد في اليوم ذاته الذي أحضرت برقية خبر معركة تيتوان. أذكر ذلك كأنه اليوم، في تلك الليلة ابتعت صحيفة كوريسبودينثيا دى اسبانيا وأول ما قرأت كان خبر وفاة تيليسفورو، وكان دعوة لجميع أصدقائه لحضور جنازته.
كونوا متأكدين من أنّي حضرت الجنازة، عندما وصلت مقبرة القديس لويس، حيث ركبت إحدى العربات القريبة من النعش، ذهب انتباهي إلى امرأة قروية. كانت عجوزاً وطويلة جداً، كانت تضحك بدناسة عندما شاهدتهم يخرجون الكفن. من ثمّ وضعت نفسها أمام حامي الدفن وبابتهاج المنتصرين أشارت لهم بمروحتها الصغيرة إلى الطريق المؤدية إلى قبره المفتوح المنتظر.
لاحظت من النظرة الأولى، والتي صاحبها الخوف والذهول، بأنها عدوة تيليسفورو الحقودة. كانت تماماً كما وصفها لي، بأنفها الضخم، وعينيها الشيطانية، وفمها المرعب، ومنديلها القطني، وتلك المروحة الصغيرة والتي بدت في يدها كأنها صولجان السخرية.
لاحظت مباشرة أني كنت أنظر إليها، وثبتت نظرها علي بطريقة غريبة كما لو أنها تعرّفت علي، كما لو أنها عرفت حقيقة أن الرجل الميت قد أخبرني عن الأحداث بشارع خاردينس ولوبو، كما لو أنها تتحداني، كما لو أنها أعلنتني الوريث للكره الذي صانته لصديقي سيئ الحظ.
أعترف أنه في ذلك الوقت كان خوفي أعظم من حيرتي لتلك الحوادث والمصادفات الجديدة. يبدو واضحاً لي أن هنالك بعض العلاقات الخارجة عن الطبيعة، سابقة على حياة الأرض، كانت قد وجدت بين العجوز الغامضة و تيليسفورو. لكن في الوقت الحالي اهتمامي الوحيد ينصب بحياتي وحدي، بروحي، بسعادتي، والتي سوف تتعرض جميعها للخطر العظيم إذا ما ورثت هذه اللعنة.
بدأت المرأة الطويلة بالضحك، أشارت إلي باستخفاف بمروحتها، كمل لو أنها قرأت أفكاري وأن خوفي قد انتشر على الملأ. اضطررت لأن أتئك على يد أحد أصدقائي لأمنع نفسي من السقوط، ومن ثم صنعت إيماءة شفقة أو ازدراء، استدارت على كعبيها وذهبت من خلال المقبرة، أدارت رأسها نحوي وهوّت بالمروحة وانحنت إلي في الوقت نفسه، انحرفت باتجاه القبور بدلع جهنمي لا يوصف حتى اختفت بين متاهة الأضرحة.
أقول دائماً، منذ خمسة عشر سنة مضت لم أرها مجدداً فإذا كانت إنسانة فإنها قد ماتت منذ زمن، وإن لم تكن أقتنع أنها احتقرتني كثيراً للتدخل معي. الآن، أحضروا نظرياتكم! أعطوني آرائكم حول هذه الأحداث، هل مازلتم تعتبرونها كما لو أنها طبيعية تماماً ؟؟
!